الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أشرف العلوم وأعلى العلماء مرتبة

السؤال

في البداية أحب أن أقول إن استفساري قريب من استفسار الأخ الكريم صاحب الفتوى رقم (142119)
واستفساري عن مراتب العلماء.
أود منكم أن أعرف ما هي أعلى مرتبة من مراتب العلماء مثلا هل مرتبة الفقهاء أم المحدثين ....الخ.
حيث إني أعرف أن أفضل العلوم علم التوحيد، ولكني وجدت أحد علماء الفقه يقول إن كان علم التوحيد أفضل العلوم، فهذا لا يعني فضل علمائه واستدل بقول ابن القيم: ( إن أفضل العلوم علم التوحيد وأنفعها علم الأحكام ) وقال إن خير الناس أنفعهم ما يدل علي أن أعلى مراتب العلماء الفقهاء، وقال إن كان أعلى مراتب العلوم علم التوحيد فأعلى مراتب العلماء هم الفقهاء. ورفع هذا القول لجمهور العلماء.
وعن نفسي أنا أعرف أن شرف الإنسان بشرف العلم الذي يحمله وشرف العلم بشرف المعلوم عنه. فهل حقا قال جمهور العلماء إن الفقهاء أعلى مراتب العلماء، وإن كان خطأ فما القول الصحيح الذي يمكن رفعه إلى جمهور العلماء ؟ وإني أرجو منكم الإجابة بعد أسبوع كما هو متاح عندكم في مركز الفتوى؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فان العلم الشرعي هو أفضل العلوم وأشرفها، وأفضل العلوم هو علم القرآن والسنة وما استنبطه أهل العلم من فقههما، وأولاها بالفضل هو العلم الذي يتحدث عن الله وأسمائه وصفاته على طريقة السلف الصالح. ويليه العلم الذي يتحدث عن أوامر الله ونواهيه، وهو الذي اشتهر عند الناس بالفقه، وإن كان استعمال الفقه في العصر الأول كان شاملا للأمرين، وكان علم العقيدة يسمى الفقه الأكبر، وكلا الأمرين فيما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما ثبت في الصحيحين: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وهو العلم الذي ورثه الأنبياء عليهم السلام أتباعهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

وفي رسالة ابن أبي زيد القيرواني: وأولى العلوم وأفضلها وأقربها إلى الله علم دينه وشرائعه مما أمر به ونهى عنه، ودعا إليه وحض عليه في كتابه، وعلى لسان نبيه، والتفقه في ذلك والتفهم فيه والتهمم برعايته والعمل به. انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط كما دل على ذلك الكتاب والسنة. والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العلماء ورثة الأنبياء ؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر .

وهذا العلم ثلاثة أقسام : علم بالله وأسمائه وصفاته. وما يتبع ذلك وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما .

والقسم الثاني : العلم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون من الأمور المستقبلة وما هو كائن من الأمور الحاضرة. وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص والوعد والوعيد وصفة الجنة والنار ونحو ذلك .

و" القسم الثالث " : العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها. وهذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة. وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين. اهـ

وقال ابن أبي العز الحنفي في مقدمة شرحه على العقيدة الطحاوية: أما بعد: فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمي الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين (الفقه الأكبر) وحاجة عباد الله إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه. انتهى.

وقال ابن رجب: أفضل العلم: العلم بالله وهو العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله، التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته والتبتل إليه والتوكل عليه والصبر عليه والرضا عنه والانشغال به دون خلقه. انتهى.

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: أما بعد فإن أولى ما يتنافس به المتنافسون وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلا وعلى طريق هذه السعادة دليلا، وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما ولا نجاة له إلا بالتعلق بسببهما، فمن رزقهما فقد فاز وغنم ومن حرمهما فالخير كله حرم، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم وبهما يتميز البر من الفاجر والتقي من الغوي والظالم من المظلوم. ولما كان العلم للعمل قرينا وشافعا وشرفه لشرف معلومه تابعا كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد، ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين وتلقي هذين العلمين إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. اهـ

وفي رد المحتار في الفقه الحنفي في الكلام عن فضل الفقه: وفضيلته كونه أفضل العلوم سوى الكلام والتفسير والحديث وأصول الفقه .اهـ

وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: وقال الحسن بن ثواب قال لي أحمد بن حنبل : ما أعلم الناس في زمان أحوج منهم إلى طلب الحديث من هذا الزمان قلت ولم ؟ قال : ظهرت بدع فمن لم يكن عنده حديث وقع فيها . وقال بشر الحافي : لا أعلم على وجه الأرض عملا أفضل من طلب العلم والحديث لمن اتقى الله وحسنت نيته...اهـ

وأفضل العلماء هم أهل العمل والخشية وأولى العلماء بذلك هم العلماء بالتوحيد والأحكام.

فقد قال الدردير في شرح أقرب المسالك: ( وأقرب العلماء إلى الله تعالى وأولاهم به ) أي بمعونته ونصرته ( أكثرهم له خشية ) قيل الخشية والخوف مترادفان وقيل الخشية أخص فهي خوف مقرون بمعرفة فيخاف عقابه مع تعظيمه تعالى بأنه عدل في فعله قال صلى الله عليه وسلم: إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية. ( وفيما عنده رغبة ) فتراهم لاعتمادهم عليه ظهرت فيهم الصفات الحميدة من الزهد إلخ ( الواقف على حدود الله ) ما حده وبينه ( من الأوامر ) بامتثال المأمورات ( والنواهي ) باجتناب المنهيات ( المراقب له في جميع أحواله ) الظاهرية والباطنية بإجرائها على قوانين الشرع , فيثمر له اليقين القلبي فيكون من المتقين الممدوحين بقوله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لأصحابه : أوصيكم بتقوى الله، وقال تعالى: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله. اهـ

وفي مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: أما بعد: فإن ( علم التوحيد ) أشرف العلوم، وأجلها قدرا، وأوجبها مطلبا؛ لأنه العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وحقوقه على عباده.

ولأنه مفتاح الطريق إلى الله تعالى، وأساس شرائعه. ولذا أجمعت الرسل على الدعوة إليه، قال الله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وعلم التوحيد هو أشرف العلوم ؛ لشرف متعلقه ، ولهذا سماه أهل العلم ( الفقه الأكبر ) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » ، وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة ، لكن يجب على المرء أيضا أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم ، ومن أي مصدر يتلقاه . اهـ

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني