الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أمثلة لعلماء طلبوا العلم في الكبر

السؤال

أنا شاب أبلغ من العمر 28 سنة، وأعمل إماما وخطيبا، أحب العلم وأسعى في طلبه، ولكنني أتضايق كثيرا من كوني قد ضاعت علي أوقات كثيرة وسنوات عديدة، وخاصة في سنوات الشباب كان بالإمكان أن أحفظ فيها القرآن والكثير من الأحاديث والمتون وأطلع على الكثير من الكتب، والسبب في ذلك أنني أعيش في بيئة جاهلة بعيدة كل البعد عن العلم والعلماء، ولم أجد من يأخذ بيدي ويستغل قدرتي وذكائي في طلب العلم منذ صغري، ومع ذلك فقد يسر الله لي أن قرأت القرآن على بعض المشايخ في غير منطقتنا وأخذت إجازة في قراءته، وأنا ـ ولله الحمد ـ أحفظ بعض الأجزاء من القرآن والأحاديث النبوية، وعندي اطلاع جيد وقاعدة أساسية ممتازة في كل العلوم الشرعية كعلم العقيدة والفقه والتفسير واللغة والحديث وغيرها، ولكنني أعرف وأدرك مدى ما ينقصني من العلم، وغاية ما عندي هو ثقافة إسلامية جيدة وليس علماً مؤصلا راسخا، عزمت الآن على البدء في طلب العلم بحزم وجد وبطريقة منهجية متدرجة توصلني إلى أن أكون عالما ـ بإذن الله ـ وأعلم أن من أعظم المحفزات لذلك مطالعة تراجم العلماء في طلبهم للعلم، فأود من حضراتكم أن تعطوني بعض الأمثلة والنماذج لعلماء تأخروا في طلبهم للعلم، بعد سن الثلاثين وصاروا علماء متميزين، لعله أن يحفزني ذلك على المضي قدما بحزم وجد في طريقي لطلب العلم، وإن كان هناك كتاب يتكلم عمن طلب العلم متأخرا من العلماء لكان أفضل.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فكثير من أهل العلم لم يبتدئ الجد في الطلب إلا بعد كبر السن، بل إن منهم من لم يتب من معاصيه إلا بعد حين، ومن هؤلاء الإمام القدوة الثبت شيخ الإسلام الفضيل بن عياض، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليا يتلو: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم { الحديد: 16} فلما سمعها، قال: بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام. اهـ.

ومن أشهر من ذكر عنهم الطلب بعد كبر السن: ابن حزم الأندلسي، قال الذهبي: قال أبو بكر محمد بن طرخان التركي: قال لي الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد ـ يعني: والد أبي بكر بن العربي: أخبرني أبو محمد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد، فجلس، ولم يركع، فقال له رجل: قم فصل تحية المسجد، وكان قد بلغ ستا وعشرين سنة، قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس، ليس ذا وقت صلاة ـ وكان بعد العصر ـ قال: فانصرفت وقد حزنت، وقلت للأستاذ الذي رباني: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون، قال: فقصدته، وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك، فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحوا من ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة. اهـ.

ونقل الحموي في معجم الأدباء عن أبي محمد بن العربي أيضا: أن أبا محمد بن حزم ولد بقرطبة، وجده سعيد ولد بأونبه، ثم انتقل إلى قرطبة وولي فيها الوزارة ابنه أحمد ثم ابنه عليّ الإمام، وأقام في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستا وعشرين سنة، وقال: إنني بلغت إلى هذا السن وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات. اهـ.

ومن هؤلاء أيضا سلطان العلماء العز بن عبد السلام، قال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة من جامع دمشق فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم فقام مسرعا ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد من البرد وعاد فنام فاحتلم ثانيا، فعاد إلى البركة، لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج فطلع فأغمي عليه من شدة البرد ـ أنا أشك هل كان الشيخ الإمام يحكي أن هذا اتفق له ثلاث مرات تلك الليلة أو مرتين فقط ـ ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عز الدين: العلم لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى. اهـ.

ومنهم أيضا الإمام القفال، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام العلامة الكبير، شيخ الشافعية، أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله، المروزي الخراساني، حذق في صنعة الأقفال حتى عمل قفلا بآلاته ومفتاحه زنة أربع حبات، فلما صار ابن ثلاثين سنة، آنس من نفسه ذكاء مفرطا، وأحب الفقه، فأقبل على قراءته حتى برع فيه، وصار يضرب به المثل، وهو صاحب طريقة الخراسانيين في الفقه... قال أبو بكر السمعاني في أماليه: كان وحيد زمانه فقها وحفظا وورعا وزهدا، وله في المذهب من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره، وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة، وأكثرها تحقيقا، رحل إليه الفقهاء من البلاد، وتخرج به أئمة، ابتدأ بطلب العلم وقد صار ابن ثلاثين سنة، فترك صنعته، وأقبل على العلم. اهـ.
وقال عنه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: الإمام الزاهد الجليل البحر أحد أئمة الدنيا ... كان قد ابتدأ التعلم على كبر السن بعدما أفنى شبيبته في صناعة الأقفال. اهـ.

ومنهم الإمام الكسائي المقرئ المعروف وشيخ العربية الذي قال عنه الإمام الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو، فهو عيال على الكسائي.

كما نقل الذهبي في السير وقال: الإمام شيخ القراءة والعربية ... اختار قراءة اشتهرت، وصارت إحدى السبع. اهـ.

قال أبو البركات الأنباري في نزهة الألباء في طبقات الأدباء: قال أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء: إنما تعلم الكسائي النحو على الكبر، وكان سبب تعلمه أنه جاء يوماً وقد مشى حتى أعيا، فجلس إلى قومٍ فيهم فضل، وكان يجالسهم كثيراً، فقال: قد عييت، فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن! فقال: كيف لحنت؟ فقالوا: إن كنت أردت من التعب، فقل: أعييت؟ وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل: عييت مخففة، فأنف من هذه الكلمة وقام من فوره فسأل عمن يعلم النحو، فأرشدوه إلى معاذ الهراء، فلزمه حتى أنفذ ما عنده، ثم خرج إلى البصرة فلقي الخليل بن أحمد وجلس في حلقته، فقال رجل من الأعراب: تركت أسداً وتميماً وعندهما الفصاحة، وجئت إلى البصرة ؟! وقال للخليل بن أحمد: من أين علمُك؟ فقال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فخرج الكسائي وأنفذ خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، ولم يكن له هم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه يونس بن حبيب البصري النحوي، فجرت بينهما مسائل أقرّ له يونس فيها، وصدره موضعه. اهـ.

ومنهم الحافظ عيسى بن موسى أبو أحمد البخاري الأزرق، الملقب بغنجار، قال الذهبي في تاريخ الإسلام: قال الحاكم: هو إمام عصره، طلب العلم على كبر السن ورحل. اهـ.

ومنهم قاضي قضاة مصر الحارث بن مسكين، قال الذهبي في السير: الإمام، العلامة، الفقيه، المحدث، الثبت، قاضي القضاة بمصر... مولده: في سنة أربع وخمسين ومائة، وإنما طلب العلم على كبر. اهـ.

وبالجملة، فينبغي أن نتذكر أن جماعة من كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يسلموا إلا بعد الثلاثين، وصاروا إلى ما صاروا إليه في العلم والعمل، وقد قال الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: باب الاغتباط في العلم والحكمة.

وقال عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا.

قال أبو عبد الله البخاري: وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني