الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل تكفي التوبة العامة أم لابد لكل ذنب من توبة؟

السؤال

إذا رجل مسلم ارتد عن الإسلام؛ لأنه سب الدين أو سب الله - والعياذ بالله - أو سب نبيا من الأنبياء أكثر من مرة، وبعدها يريد التوبة وتاب، ونطق الشهادتين. فهل في كل قول قاله بجب أن يتوب منه؟ أو توبة واحدة؟ لأن الرجل نطق الشهادتين، وصلى ركعتين مع بكاء ودعاء، واعترف ببعض الذنوب التي فيها إساءة - والعياذ بالله-. وبعد توبته بأسبوع تذكر بعض الكبائر التي لم يتب منها؛ لأنه كان ناسيها أثناء صلاة التوبة. أفيدونا، وماهي شروط التوبة؟ وكيف وله كبائر كثيرة خرج بها من الملة وهو ناسيها؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن السب من أخطر أنواع الردة، فقد قال الإمام إسحاق بن راهويه: "أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبياً من أنبياء الله تعالى أنه كافر بذلك ، وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله".

وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم والمنتقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كَفَر. فمن ثبت عليه الطعن أو التنقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم شمله هذا الحكم ولا كرامة.
وأما من ندم وتاب توبة صحيحة، مستجمعة لشروطها من الإقلاع، والندم ، والعزم على عدم العودة إليه؛ فان الله تعالى يقبل توبته على الراجح كما قال الله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } الأنفال : 38 , وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } الشورى : 25 , وقال تعالى فيمن فرط وأسرف على نفسه: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } {الزمر: 53}.
قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها، ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. اهـ.
وقال الشيخ ابن باز في فتاوى نور على الدرب: متى سب المسلم الدين أو تنقصه، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو انتقصه أو استهزأ به؛ فإنه يكون مرتدا كافرا حلال الدم والمال، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وبعض أهل العلم يقول: لا توبة له من جهة الحكم بل يقتل، ولكن الأرجح إن شاء الله أنه متى أبدى التوبة وأعلن التوبة، ورجع إلى ربه عز وجل أن يقبل، وإن قتله ولي الأمر ردعا لغيره فلا بأس، أما توبته فيما بينه وبين الله فإنها صحيحة، إذا تاب صادقا فتوبته فيما بينه وبين الله صحيحة. انتهـى.

وأما عن الشروط فقد نص أهل العلم على أن توبة المرتد تكون بإسلامه، فإذا نطق بالشهادتين فقد دخل في الإسلام؛ إلا أن تكون ردته بسبب جحد فرض ونحوه، فإن توبته حينئذ تكون بالنطق بالشهادتين مع إقراره بالمجحود به، واختلف هل يلزمه البراءة من جميع الأديان المخالفة أم لا؟ فقد قال في زاد المستقنع: وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومن كفر بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به، أو قول: أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام. انتهى.
وقال في المبدع: (وَتَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ) وَكُلِّ كَافِرٍ (إِسْلَامُهُ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَثْبُتُ بِهِ إِسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ، وَلَا يُحْتَاجُ مَعَ ثُبُوتِ إِسْلَامِهِ إِلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ. انتهى.

واعلم أن من تاب من جميع الشركيات لا يلزمه التجديد للتوبة كلما ذكر شيئا من سوابقه أو الكبائر التي اقترفها، فقد ذكر أهل العلم أن التوبة من جميع الذنوب على سبيل الإجمال كافية، وأن إسلام الكافر يمحو جميع سيئاته، كما قال الله تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ {الأنفال:38}

وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص رضي الله عنهما: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله.

وقال محمد مولود في مطهرة القلوب في شروط التوبة:

وشرطها استحلاله للآدمي من حقه الظاهر غير الحرمى

ونحوه إن تستطع تحلله منه ولا بد من أن تفصله

له وتكفي في ذنوب مجمله ومنكر عجز أن يعود له.

وراجع الفتوى رقم : 132964.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني