الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أسباب وعلاج فقد حلاوة الإيمان والأذكار وضياء الطاعة بعد ذوقها

السؤال

ماذا يفعل من ذاق طعم الإيمان، ثم فقده؟ ‏فأصبح لا يذوق طعما للتسبيح، ‏والاستغفار، وأصبح لا يخشع في ‏صلاته، وأصبح لا يخاف الغيبة، ولا ‏يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن ‏المنكر؟‏
ماذا يفعل وقد أصبحت حياته ضنكا، ‏بعد أن كانت طيبة، هنية؟ ‏
ماذا يفعل وقد قلَّ ذكره لله، وقلَّ حسن ‏ظنه بربه؟ ماذا يفعل وهو يكاد لا يدعو ‏الله، ولا يتضرع له؟ ماذا يفعل وقد ‏ذهب النور من وجهه من بعد أن كان ‏ذا نور كثير؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ريب أن ما حصل لهذا الشخص من الحجاب عن الله تعالى، وفقد الأنس به سبحانه، والتلذذ بمناجاته، وذكره، والتعبد له جل اسمه، إنما نشأ عن معصية ألمَّ بها هذا الشخص، فعليه أن يتدارك تلك المعصية بتوبة نصوح، يزيل بها ران الذنوب، حتى يعود له ما سلب من ذوقه من حلاوة الإيمان. قال ابن القيم رحمه الله: وَمِنْهَا: -أي من آثار الذنوب والمعاصي- وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، لَا تُوَازِنُهَا، وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا. وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نفسه، فَقَالَ لَهُ: إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ ... فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ، وَاسْتَأْنِسِ،، وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ أَمَرُّ مِنْ وَحْشَةِ الذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. انتهى.

وهذا الفصل بطوله في آثار الذنوب والمعاصي، في الداء والدواء، من أنفع ما يستعان به لمعرفة ضرر الذنوب، وأنها سبب كل شر يلحق العبد في دينه ودنياه، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى:30}.

فليتب هذا الشخص إلى ربه توبة نصوحا، صادقة، وليقبل على ربه بكليته، وليعلم أنه متى تقرب إلى ربه شبرا، تقرب الله إليه ذراعا، وإن تقرب إليه ذراعا، تقرب الله إليه باعا، وإن أتاه يمشي، أتاه ربه هرولة، فعليه بمجاهدة نفسه لاستعادة ما كان عليه من الطاعة، وصحة القلب، وسلامته؛ فإن ذلك سبيل ذوق حلاوة الإيمان، ووجدان لذة الطاعة، وليعلم أن تلك اللذة لا تنال إلا بالمصابرة والمجاهدة، وأن الفتور لا بد منه، ولكن على العبد ألا يطول فتوره، وألا يخرجه من واجب، ولا يدخله في حرام، وليكثر الفكرة في أسماء الرب تعالى، وصفاته، ونعمه على عبده الظاهرة، والباطنة؛ فإن ذلك من أعظم أسباب حياة القلب، وليستجب لربه تعالى فعلا للمأمور، وتركا للمحظور، واستقامة على الشرع؛ فإن حياة القلب لا تنال إلا بهذا كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ {الأنفال:24}.

وعليه بالإكثار من قراءة القرآن بالتدبر، والتفهم، والوقوف عند معانيه، وتحريك قلبه بها؛ فإن لقراءة القرآن بالتدبر، والتفهم أثرا عظيما في إحياء القلب، وشفائه من أسقامه، وإذاقته حلاوة الإيمان.

يقول ابن القيم رحمه الله: فتبارك الَّذِي جعل كَلَامه حَيَاة للقلوب، وشفاء لما فِي الصُّدُور. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا شَيْء أَنْفَع للقلب من قِرَاءَة الْقُرْآن بالتدبر والتفكر؛ فَإِنَّهُ جَامع لجَمِيع منَازِل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وَهُوَ الَّذِي يُورث الْمحبَّة والشوق، وَالْخَوْف والرجاء، والإنابة والتوكل، وَالرِّضَا، والتفويض، وَالشُّكْر، وَالصَّبْر وَسَائِر الأحوال الَّتِي بهَا حَيَاة الْقلب وكماله، وَكَذَلِكَ يزْجر عَن جَمِيع الصِّفَات والأفعال المذمومة وَالَّتِي بهَا فَسَاد الْقلب وهلاكه. فَلَو علم النَّاس مَا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن بالتدبر لاشتغلوا بهَا عَن كل مَا سواهَا، فَإِذا قَرَأَهُ بتفكر حَتَّى مر بِآيَة وَهُوَ مُحْتَاجا إِلَيْهَا فِي شِفَاء قلبه، كررها وَلَو مائَة مرّة، وَلَو لَيْلَة، فقراءة آيَة بتفكر وتفهم خير من قِرَاءَة ختمة بِغَيْر تدبر وتفهم. انتهى.

وأمام ذلك كله دعاء الله تعالى، والابتهال له، فإنه سبحانه هو مقلب القلوب، فليضرع إليه سبحانه أن يقيم قلبه على الحق، وأن يذيقه حلاوة الإيمان، ولذة الطاعة، وأن يقبل بقلبه عليه سبحانه، نسأل الله أن يرزقنا جميعا قلوبا سليمة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني