الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من حضر إلى المسجد ثم طرأت عليه حاجة، فهل له حجز مكانه لحين عودته؟

السؤال

ذكرتم في الفتوى رقم: 96918 الخلاف في مسألة حجز المكان، وأن الأفضل الابتعاد عنه، خروجًا من الخلاف، فماذا ترجحون؟ وعلى القول بالمنع، فهل يحق لي إذا جئت وقعدت في المكان، ثم قمت لقضاء الحاجة، وتجديد الوضوء، والإتيان بالطعام من محل بجوار المسجد، ثم الرجوع، والأكل في المسجد، فهل يحق لي أن أحجز مكاني بشيء، كسجادة، حتى أعود؛ حتى لا أضطر لإقامة أحد؛ فإن ذلك متعذر، وفي الغالب غير ممكن أصلًا. وإذا تأخرت عشر دقائق لأحضر جدتي بالسيارة للمسجد؛ لأنها لا تستطيع الإتيان بمفردها، فهل يحق لي الحجز أيضًا في هذه الحالة -جزاكم الله خيرًا-؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالقول الراجح في المسألة التي سألت عنها، هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية, وهو خاص بمن يحتجز مكانًا في المسجد مع عدم حضوره، حيث قال في مجموع الفتاوى: سئل عمن تحجر موضعًا من المسجد، بسجادة، أو بساط، أو غير ذلك، هل هو حرام؟ وإذا صلى إنسان على شيء من ذلك بغير إذن مالكه هل يكره أم لا؟

أجاب: ليس لأحد أن يتحجر من المسجد شيئًا، لا سجادة يفرشها قبل حضوره، ولا بساطًا، ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه؛ لكن يرفعها، ويصلي مكانها؛ في أصح قولي العلماء. والله أعلم.

وقال أيضًا: ليس لأحد أن يفرش شيئًا، ويختص به مع غيبته، ويمنع به غيره، هذا غصب لتلك البقعة، ومنع للمسلمين مما أمر الله تعالى به من الصلاة، والسنة أن يتقدم الرجل بنفسه، وأما من يتقدم بسجادة، فهو ظالم، ينهى عنه، ويجب رفع تلك السجاجيد، ويمكن الناس من مكانها. اهـ.

وهذا القول هو الذى رجحه الشيخ ابن عثيمين، حيث قال في الشرح الممتع: ولكن الصحيح في هذه المسألة، أن الحجز، والخروج من المسجد، لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المُصَلَّى المفروش؛ لأن القاعدة: (ما كان وضعه بغير حق، فرفعه حق)، لكن لو خيفت المفسدة برفعه من عداوة، أو بغضاء، أو ما أشبه ذلك، فلا يرفع؛ لأن درء المفاسد، أولى من جلب المصالح. انتهى.

قال أيضًا: مسألة: يستثنى من القول الراجح من تحريم وضع المُصَلَّى؛ ما إذا كان الإنسان في المسجد، فله أن يضع مصلى بالصف الأول، أو أي شيء يدل على الحجز، ثم يذهب في أطراف المسجد لينام، أو لأجل أن يقرأ قرآنًا، أو يراجع كتابًا، فهنا له الحق؛ لأنه ما زال في المسجد، لكن إذا اتصلت الصفوف، لزمه الرجوع إلى مكانه؛ لئلا يتخطى رقاب الناس. انتهى.

أما من حضر إلى المسجد, ثم طرأت عليه حاجة تقتضى الخروج, كالإتيان بطعام, أو إحضار والدته للمسجد, أو نحو ذلك, فيجوز له احتجاز مكان في المسجد, ويكون أحق به إذا رجع, وبعض أهل العلم قيد استحقاق ذلك المكان بالرجوع عن قرب, وهذا القرب محدد بما تعارف عليه الناس، جاء في المغني لابن قدامة: إذا جلس في مكان، ثم بدت له حاجة، أو احتاج إلى الوضوء، فله الخروج. «قال عقبة: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى حجر بعض نسائه، فقال: ذكرت شيئًا من تِبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته» رواه البخاري. فإذا قام من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به». انتهى.

وفي الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين : فإذا حجز الإنسان المكان، وخرج من المسجد لعارض لحقه، ثم عاد إليه، فهو أحق به، والعارض الذي يلحقه مثل أن يحتاج للوضوء، أو أصيب بأي شيء اضطره إلى الخروج، فإنه يخرج، وإذا عاد فهو أحق به. ولكن المؤلف اشترط فقال: «ثم عاد إليه قريبًا» ولم يحدد القرب؛ وكل شيء أتى ولم يحدد، يرجع فيه إلى العرف كما قال الناظم:

وكل ما أتى ولم يحدد ... بالشرع كالحرز، فبالعرف احدد.

وظاهر كلام المؤلف أنه لو تأخر طويلًا، فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه. وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدة طويلة إذا كان العذر باقيًا، وهذا القول أصح؛ لأن استمرار العذر كابتدائه، فإنه إذا جاز أن يخرج من المسجد، ويُبقي المُصَلَّى إذا حصل له عذر، فكذلك إذا استمر به العذر، لكن من المعلوم أنه لو أقيمت الصلاة، ولم يزل غائبًا فإنه يرفع. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني