الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رجم الزاني المحصن عند المسلمين واليهود، ومدى صحة أن عيسى لم يقمه على المرأة

السؤال

قرأت في كتاب السيرة النبوية لابن هشام، ووقفت عند أحد المواقف، وهو: كان اليهود قد أتوا للنبي برجل وامرأة زنيا، ويريدون أن يحكم فيهم، وكانوا يقولون فيما بينهم: إذا حكم بالجبية (نوع من الجلد، والإهانة)، فهو ملك، أما إذا حكم بالرجم، فهو نبي، ومعروف أن شريعة التوراة تقر بالرجم عقوبة للزنى، وقد تخاذل بعض الملوك والأشراف من تطبيقها لمن يخصهم، وقد حكم النبي عليهم بالرجم، وقال: إنه أول من يحيي شريعة الله، وتم رجمهما عند باب المسجد، وأريد أن أسأل عدة أسئلة في هذا الأمر:
1- هل التوراة محرفة، وقد أقر الرسول حكمًا بها، وهذا موجود بين أيدينا اليوم؟ أم هي غير محرفة؛ لذلك يعتبرها الرسول شريعة الله؟
2- لماذا لم يذكر الرجم في القرآن، وتم فرض عقوبة الجلد للزاني، وتلك العقوبة التي رفض أن يطبقها عليهم النبي، وأن من يطبقها هم الملوك المتخاذلون تارة يقرون رجمًا، وتارة جلدًا؟
3- قد ذكر مثل هذا الموقف في الكتاب المقدس في العهد الجديد في إنجيل يوحنا، عندما أراد اليهود أيضًا تجربة يسوع، والإيقاع به على كل حال، وأتو بامرأة زنت، وقالوا له: إن شريعة موسى والناموس يقولون بالرجم، فماذا تقول؟ فأعطاهم عظة، ولم ينفذ حكم التوراة، وألغى العقوبة، ونصح بالتوبة عن الذنب، وقال لهم: من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر، وقد ذهب الجميع بعد ذلك، فلماذا لم يكمل النبي شريعة الإنجيل والعهد الجديد؟ إذ إن الله لم يرد للعالم بعد ذلك الوقت أن يعاقب بهذا العقاب، ورجع النبي إلى التوراة في الحكم في الموقف؟ وشكرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فتحريف أهل الكتاب لوحي الله، أمر قطعي معلوم، وقد نصت عليه آيات القرآن، كما في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ {البقرة:79}، وقوله: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {البقرة:75}، وقوله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا {النساء:46}، وقوله تبارك وتعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ {المائدة:13}، وقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {المائدة:41}.

وهذه الآية الأخيرة نزلت في حادثة الرجم المذكورة في السؤال، فعن البراء بن عازب، قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال: «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟»، قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا، لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف، تركناه، وإذا أخذنا الضعيف، أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا، فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم، والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم، إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه»، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة:41] إلى قوله: {إن أوتيتم هذا فخذوه} [المائدة:41]، يقول: ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد، فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا، فأنزل الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} في الكفار كلها. رواه مسلم.

وليس معنى ثبوت التحريف في الكتب المقدس عند اليهود والنصارى: أن كل ما فيها باطل محرف، بل فيها شيء من آثار الوحي الباقية، ومنها: بقاء حد رجم الزاني. وهذا لم نقطع به لوجوده في التوراة، وإنما لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك هو حكم التوراة على الزاني، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم، إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه. والمراد أنه حكم فيهم بحكم كتابهم، قال القرطبي في المفهم: تأول الشافعي حكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم، بأن ذلك منه كان إقامة لحكم كتابهم لما حرفوه، وأخفوه، وتركوا العمل به. ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم، إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)). اهـ. وانظر الفتوى رقم: 43191.

ولم تكن معرفته صلى الله عليه وسلم بحكم التوراة مأخوذة من مجرد إخبار اليهود له بذلك، بل ذلك بوحي من الله، أو بإخبار من أسلم منهم، قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: هذا السؤال ليس لتقليدهم، ولا لمعرفة الحكم منهم، فإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم، ولعله صلى الله عليه وسلم قد أوحي إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم، لم يغيروه، كما غيروا أشياء، أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم؛ ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه. اهـ. وانظر الفتوى رقم: 111455.

وأما السؤال الثاني، فجوابه أن رجم الزاني المحصن كان فيما أنزل من القرآن، ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه، وعمل به النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، وأجمع عليه علماء هذه الأمة، وراجع في ذلك الفتويين: 26483، 368902.

وأما السؤال الثالث، فجوابه: أن ما في بعض الأناجيل من قصة المسيح عليه السلام مع المرأة الزانية، لا يمكن الجزم بصحته، بل هو أولى بنسبة التحريف إليه؛ لأن عيسى -عليه السلام- لم يكن لينقض حكم التوراة، أو يلغيه! وقد جاء مصدقًا له، كما قال تعالى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ {المائدة:46}، وقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ {الصف:6}، لا سيما أن هناك بعض الأناجيل - كإنجيل يوحنا - لم يرد فيها ذكر لهذه القصة البتة، قال الشيخ عبد المجيد صبح في كتابه: (الرد الجميل على المشككين في الإسلام من القرآن والتوراة والإنجيل والعلم): الشريعة المنسوبة إلى موسى وحدها هي التي شرعت نظامًا للحكم. أما (المسيحية) فلم تعرض للحكم والتشريع، على جهة القصد والبناء؛ لأنها قامت في بلاد تدين (بالحكم السياسي) للرومان، (والحكم الديني) لهيكل إسرائيل! وموسى -عليه السلام-، تلقى الشريعة مكتوبة على لوحين من حجر، والعهد القديم الآن مكتوب في مئات الصفحات: فالأسفار الخمسة التي تسمى التوراة: التكوين، والخروج، واللاويين - الأخبار، والعدد، والتثنية - هذه فقط صفحاتها (في نسختي) ست وعشرون وثلاثمائة صفحة، ومجموعها مع سائر الأسفار الأخرى (في نسختي) ثمان وخمسون وثلاثمائة وألف صفحة! فمن أين، يا ترى، جاءت هذه الزيادة؟ وكيف اعتبرت وحيًا مقدسًا؟ وكيف قيل عن خمستها الأوائل (على الأقل) إنها توراة موسى، الموحاة إليه، والتي تناولها مكتوبة؟!! وماذا كان موقف عيسى المسيح من شريعة موسى؟ أما أنا فلست أدري أقرَّها، أم نقضها؟ وأما أنتم، أيضًا، فلا تدرون!! بل إنجيلكم نفسه لا يدري!! ففي إنجيل متى: 5 / 17: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس، أو الأنبياء. وفي إنجيل يوحنا ص: 1 / 35 قوله: لا يمكن أن ينقض المكتوب. وتقدم نقلنا عن (اللاويين) 21 إذا تدنست ابنة كاهن بالزنى، فقد دنست أباها، بالنار تحرق ". وفي اللاويين 20. أن الرجل إذا اتخذ امرأة وأمها، يحرق معهما. وفي سفر التثنية 22/22: إذا زنت امرأة ذات زوج، يقتلان. فما موقف المسيح؟ كان يلزم - بحسب أنه لا ينقض حرفًا من الناموس - أن يقيم حد الزنا على المرأة التي قدمت إليه، وشهد عليها الشهود، لا أن يقول لها - كما في يوحنا 8 / 2 - 11. أن الكتبة، والفريسيين قالوا له: يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت؟ .. قال لهم: من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها أولًا ... قال للمرأة: يا امرأة، ولا أنا أدينك، اذهبي، ولا تخطئي أيضًا. أو ليس هذا نقضا للناموس؟ فهل عندكم من جواب؟ اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني