الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مجازاة الجار بجنس عمله وإساءته

السؤال

هل يجب علي نحو جاري بسبب أذيته لي بالكلام والسخرية وعدم رد السلام عليه لتأديبه وهل تجب أذيته كما آذاني لقوله تعالى: وجزاء سيئة بمثلها؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالمفهوم من السؤال أن صاحبه يسأل: هل يجب عليه أن يرد السلام على جاره الذي يؤذيه بالكلام والسخرية. أم يجوز له أن يمتنع عن رد السلام عليه تأديبا له على ذلك؟ وهل يؤذيه في المعاملة جزاء على سلوكه، كما قال تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها. فإن كان هذا هو المراد، فينبغي أن نعلم أن الابتداء بالسلام سنة ورد السلام فرض في الجملة عند الفقهاء، لقوله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا. {النساء:86}.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس. رواه البخاري ومسلم.

فإن كان المُسَلم عليه واحدا تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان رد السلام فرض كفاية عليهم. قال ابن العربي: قال علماؤنا: أكثر المسلمين على أن السلام سنة ورده فرض. وقد عد بعضهم ترك رد السلام في الكبائر. قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر: وفيه نظر، وقد صرح بعض الأئمة بأن ذلك صغيرة وهو متجه، نعم إن احتف بالترك قرائن تخيف المسلم إخافة شديدة وتؤذيه أذى شديدا لم يبعد حينئذ أن الترك كبيرة لما فيه من الأذى العظيم الذي لا يحتمل.

ويتأكد هذا الحكم إن اجتمع مع الإسلام وصف آخر، كصلة الرحم والإحسان إلى الجيران، كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا. {النساء: 36}

هذا هو الأصل، وقد يتغير الحكم في بعض الأحوال، حيث نص بعض الفقهاء على جواز تَرْكُ رَدِّ سَلَامِ الْفَاسِقِ زَجْرًا له عن فسقه. فقد سئل الرملي: هل يجب رد السلام على الفاسق أو لا؟ فأجاب: بأنه لا يجب رده إذا كان تركه زجرا له ولا يستحب ابتداؤه. ونقل الخادمي في بريقة محمودية عن كتاب القنية: ولا يسلم على الشيخ الممازح أو الكذاب أو اللاهي ومن يسب الناس ومن ينظر في وجوه النسوان في الأسواق ما لم يعرف توبتهم.

ومما يدل لذلك ما رواه نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ فَلَا تُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وابن ماجه وحسنه الألباني. قال القاري في مرقاة المفاتيح: قال ابن حجر: لا تقرئه مني السلام: لأنا أمرنا بمهاجرة أهل البدع، ومن ثم قال العلماء: لا يجب رد سلام الفاسق والمبتدع، بل لا يسن زجراً لهما ، ومن ثم جاز هجرهم لذلك.

ولا شك أن الأذية الظاهرة للجار من المعاصي الموجبة لفسق صاحبها؛ فقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ! إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعلُ، وتصدقُ، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا خير فيها، هي من أهل النار. رواه البخاري الأدب المفرد، ورواه أحمد وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوايقه. وقال صلى الله عليه وسلم: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ رواه مسلم.

وينبغي التنبه إلى أن عدم وجوب الرد لا يعني عدم الجواز، ويبقى النظر دائما إلى مراعاة المصلحة، فإن كان الجار المؤذي لا ينزجر بهجره بل يزداد إيذاؤه، فالحكم حينئذ يرجع إلى الأصل.

وقد سبقت بعض الفتاوى في هجر المجاهر بالمعاصي وأحواله وأحكامه ومراعاة جانب المصلحة فيه: 7119 ، 21242 ، 24983 ، 29790 ، 58252،18120، 14139.

ومع ذلك فإنا نوصي السائل الكريم أن يمتثل وصية الله تعالى القائل: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. { فصلت:35،34}.

فليصبر على أذى جاره إكراما له؛ امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ. رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. رواه البخاري ومسلم.

فالصبر هو أول ما يؤمر به من يشتكي جاره. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ فَاصْبِرْ. فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ: اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ. فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. رواه أبو داود وصححه الألباني.

وأما مجازاة هذا الجار بجنس عمله، ورد سيئته بمثلها فإن هذا وإن جاز وهو العدل لقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا.{ الشورى:40} فإن الفضل والكمال في ما ذكره الله في إتمام الآية وهو قوله: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. {الشورى:40}. وإذا قرأنا بعدها قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ {الشورى:41}. وذكر الفضل في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى:43}. وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. {النحل:128،127،126}

ولهذا فقد قال صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في الصحيحة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني