الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين الخوف والرجاء في العبادة

السؤال

سؤالي هو: كيف نوفق ونجمع بين حسن الظن بالله تعالى عند عمل الطاعات أو الدعاء بأنه جل شأنه سوف يتقبلها ويثيبنا عليها خيرا، وبين تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة قوله تعالى: والذين يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة.
حيث قال: لا يا بنت الصديق هم الذين يفعلون الطاعات ويخافون أن لا تتقبل منهم؟ وفي حال كون الحالتين محمودتين فأيهما أفضل للمؤمن؟ أن يطمئن لثواب الله، مع عدم تأكده من القبول؟ أم الخوف من حصول شيء يحبط عمله دون أن يدري، ولكن بشرط أن لا يصل لليأس أبدا؟ بل يسأل الله دوما القبول والتوفيق.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالمؤمن الموفق يجمع في عبادته بين الخوف والرجاء، كما قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ {الزمر: 9}.

قال ابن كثير: قوله: يَحْذرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.

أي: في حال عبادته خائف راج، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب، ولهذا قال: يَحْذرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.

فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه. اهـ.

وكثيرا ما يقترن بالخوف والرجاء أمر ثالث وهو التذكير بعظمة الله تعالى ونعمه المتكاثرة على عباده، مما يثمر محبة الله تعالى، وبهذا تتحقق عبودية الله، كما في قوله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {غافر:3}.

وقد سبق أن بينا أن عبادة الله لا تتم إلا بالحب والخوف والرجاء، وذلك في الفتوى رقم: 65393، فراجعها للأهمية، ومنها ستعلم أن تغليب جانب الخوف مدة الحياة أفضل، كما سبق نقله عن ابن كثير، وأنه لا تعارض بين خوف العبد من عدم القبول وبين رجائه في رحمة الله وحسن ظنه به سبحانه، فإن هذا هو حال المؤمنين، يوصفون من جهة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {المؤمنون: 60}.

ومن جهة أخرى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَلِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ {فاطر:29، 30}.

قال ابن كثير: يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ.

أي: يرجون ثوابا عند الله لا بد من حصوله. اهـ.

وذلك أن الخوف من عدم القبول لا يعني القطع بذلك، وإنما يعني عدم الركون إلى العمل وعدم القطع بالقبول، وأن يتمحض الاتكال على رحمة الله وفضله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن ينجي أحدا منكم عمله.

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة. متفق عليه.

وقد بوب البخاري في صحيحه باب: باب الرجاء مع الخوف.

فقال الحافظ ابن حجر في ـ الفتح: أي استحباب ذلك، فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف، ولا في الخوف عن الرجاء، لئلا يفضي في الأول إلى المكر، وفي الثاني إلى القنوط، وكل منهما مذموم، والمقصود من الرجاء أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحوعنه ذنبه، وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها، وأما من انهمك على المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع، فهذا في غرور، وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي: من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل، ومن علامة الشقاء أن تعصي وترجو أن تنجو.

وهذا كله متفق على استحبابه في حالة الصحة، وقيل: الأولى أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر، فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله.

وقال آخرون: لا يهمل جانب الخوف أصلا بحيث يجزم بأنه آمن، ويؤيده ما أخرج الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن الا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف. اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين في ـ القول المفيد على كتاب التوحيد: الاتكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله، وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة، ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون سائرا إلى الله بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه، فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله.

وقال بعض العلماء: إن كان مريضا غلَّب جانب الرجاء، وإن كان صحيحا غلب جانب الخوف.

وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله، غلَّب جانب الرجاء، وإذا نظر إلى فعله وعمله، غلَّب جانب الخوف لتحصل التوبة، ويستدلون بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ.

أي: خائفة أن لا يكون تقبل منهم لتقصيرأوقصور، وهذا القول جيد. وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة، ليحسن الظن بالله، ويغلِّب جانب الخوف إذا هم بالمعصية، لئلا ينتهك حرمات الله. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة الفتويين رقم: 44737، ورقم: 25072.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني