الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في البيع إلى ميسرة

السؤال

اشترى رجل من ورثة أخيه نصيبهم في بيت وهو: 23 مترا منذ 10 سنوات ب 1800 جنيه مصري، لكنه دفع 300 جنيه فقط من المبلغ حينها على أن يسدد الباقي حين يتيسر له المال، وعندما تيسر المال وذهب لسداده رفضوا وقالوا له إن قيمة نصيبنا اليوم أغلى من السابق فحاسبنا بسعر اليوم، فقال نحن اتفقنا على السعر وتم البيع وما لكم عندي هو دين ، فقال بعض الناس إن البيع يقع بقيمة ال300 جنيه فقط من نصيبهم ويعتبر ما لم يسدد ثمنه لاغيا، وقال آخر تحسب قيمته بسعر الذهب حينها والآن، وقال: البنكنوت غير معترف به شرعا فنحسب ال1800 وقتها وينظر بكم كانوا يشترون جرام الذهب ويكون لهم نفس قيمة الجرامات الآن.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالبيع إلى الميسرة محل خلاف بين أهل العلم، فإن الميسرة أجل مجهول فلا يصح عند جماهير العلماء، قال الشيرازي في المهذب: إن باع بثمن مؤجل لم يجز إلى مجهول, كالبيع إلى العطاء, لأنه عوض في بيع, فلم يجز إلى أجل مجهول كالمسلم فيه. اهـ.

وقال النووي في شرحه: اتفقوا على أنه لا يجوز البيع بثمن إلى أجل مجهول. انتهـى.

وجاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على عدم جواز التأجيل إلى ما لا يعلم وقت وقوعه ـ حقيقة أو حكما ـ ولا ينضبط، وهو الأجل المجهول وذلك كما لو باعه بثمن مؤجل إلى قدوم زيد من سفره، أو نزول مطر، أو هبوب ريح، وكذا إذا باعه إلى ميسرة، واختلفوا في أثر هذا التأجيل على التصرف فيرى الحنفية والمالكية والشافعية ـ وهو رأي للحنابلة ـ أنه لا يصح العقد أيضا، وذلك لأنه أجل فاسد فأفسد العقد.

ويرى الحنابلة أن الأجل المجهول في البيع يفسد، ويصح البيع، وفي السلم يفسد الأجل والسلم. انتهـى.

ومعنى صحة البيع وفساد الشرط أن الثمن يصبح حالا، قال العبادي في الجوهرة النيرة: إن أجلها إلى أجل مجهول، إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الرياح ونزول المطر وقدوم فلان من سفره وإلى الميسرة فالتأجيل باطل والثمن حال. اهـ.

ومن أهل العلم من يستثني البيع إلى ميسرة من اشتراط معلومية الأجل لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلت: يا رسول الله, إن فلانا قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه, فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة؟ فبعث إليه فامتنع. قال ابن حجر في بلوغ المرام: أخرجه الحاكم والبيهقي, ورجاله ثقات. اهـ. وهذا رواه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح. والنسائي وأحمد، وصححه الألباني.

قال الصنعاني في سبل السلام: فيه دليل على بيع النسيئة وصحة التأجيل إلى ميسرةهـ.

وقال ابن حزم في المحلى: لا يجوز البيع بثمن مجهول ولا إلى أجل مجهول كالحصاد وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان، وإنما يجوز الأجل إلى ما لا يتأخر ساعة ولا يتقدم كالشهور، حاشا ما ذكرنا من المبيع إلى الميسرة فهو حق للنص في ذلك, ولأنه حكم الله تعالى في كل من لا يجد أداء دينه. اهـ.

وقال ابن عثيمين في الشرح الممتع: المذهب ـ يعني الحنبلي ـ أن هذا الشرط لا يصح، ويكون الثمن حالاً غير مؤجل، والعلة في ذلك الجهالة، ولكن الصحيح أنه يصح لدليل أثري ونظري. اهـ.

وذكر نحو استدلال ابن حزم.

والراجح هو قول الجمهور وأن البيع إلى الميسرة لا يصح، وهو من الأجل المجهول، وأما حديث عائشة فقد رواه البيهقي ثم أجاب عنه، فقال: هذا محمول على أنه استدعى البيع إلى الميسرة، لا أنه عقد إليها بيعا، ثم لو أجابه إلى ذلك أشبه أن يوقت وقتا معلوما، أو يعقد البيع مطلقا ثم يقضيه متى ما أيسر. اهـ.

وقال ابن قدامة في المغني: إن قيل: فقد روي عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي أن ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة، قلنا: قال ابن المنذر: رواه حرمي بن عمارة، قال أحمد: فيه غفلة هو صدوق. قال ابن المنذر: فأخاف أن يكون من غفلاته إذ لم يتابع عليه. ثم لا خلاف في أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح. اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري، والعيني في عمدة القاري: الحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب، لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه، ولذلك لم يصف الثوبين. انتهـى.

وعلى هذا القول الراجح فهذا البيع فاسد يجب فسخه، ولا يمكن تصحيحه بعد ذلك بتحديد الأجل، فإن الحكم عند جمهور العلماء، كما في الموسوعة الفقهية: أن البيع الباطل لا ينقلب صحيحا برفع المفسد . اهـ ولكن هل يفسد البيع كله؟ أم يفسد بقدر المؤجل من الثمن فقط؟ فالذي نراه ـ والله أعلم ـ أن يصحح البيع في القدر المعجل من الثمن ـ السدس ـ ويفسخ في الباقي، لأنه لا يخفى أن المشترى لو رد إليه القدرالذي عجله:300 جنيه ـ بعد عشر سنوات فسوف يلحقه ضرر ظاهر باختلاف القيمة، فكان الحكم الذي يحقق العدل للطرفين ـ إن شاء الله ـ هو تصحيح العقد في القدر المعجل وفسخه في القدر المؤجل، ويمكن أن يُخرَّج هذا على ما يعرف عند الفقهاء بتفرق أو تبعض أو تجزؤ الصفقة، وهذا هو القول الأظهر للشافعية ورواية عند الجنابلة،وهو قول ابن القصار من المالكية: أنه يجوز تجزئة الصفقة فيصح البيع فيما يجوز، ويبطل فيما لا يجوز، لأن الإبطال في الكل لبطلان أحدهما ليس بأولى من تصحيح الكل لصحة أحدهما، فيبقيان على حكمهما ويصح فيما يجوز، ويبطل فيما لا يجوز.

وقالأبو يوسف ومحمد بن الحسن : إن عين ابتداء لكل شق حصته من الثمن، فعند ذلك تعتبر الصفقة صفقتين مستقلتين تجوز فيهما التجزئة فتصح واحدة وتبطل الأخرى. انتهى.

أما لو كان هذا البيع قد وقع إلى أجل معلوم ولو عشر سنوات، فلم يكن لأصحاب الأرض أن يطلبوا بزيادة على الثمن حتى ولو ارتفع السعر أضعافا، فإن المدين إنما يلزمه قضاء ما ثبت في ذمته وقت التحمل، بغض النظر عن قيمته وقت الأداء، فإن جاء الأجل لزمه السداد، إلا إذا ثبت إعساره فيُنظر إلى ميسرة كما أمر الله، وأما إذا كان موسرا فماطل، ومطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته، فيرفع أمره للمحكمة الشرعية ليجبره القاضي على الدفع ويعاقبه بما يستحق.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني