الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

محاسبة المرء على أعماله القلبية

السؤال

لديَّ شبهة حول الأعمال القلبية، وأنها تأتي رغمًا عن الإنسان، وليس له فيها تحكّم، فكيف يحاسب عليها، مثل: حب غير الله كحب الله؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعـد:

فأعمال القلوب التي يسميها أرباب السلوك أحوالًا، لا يمكن اكتسابها عادة إلا باستحضار ما يستدعيها من العلوم والمعارف، وهذا هو محل التكليف، بمعنى أن العبد مكلّف بالأسباب المستوجبة لها، وأما هي ذاتها، فخارجة عن الوسع، والله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: اعلم أن الخوف ناشئ عن معرفة شدة النقمة، والرجاء ناشئ عن معرفة سعة الرحمة، والتوكل ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضر والنفع، والخفض والرفع، والمحبة تنشأ تارة عن معرفة الإحسان والإنعام، وتارة عن معرفة الجلال والجمال، والمهابة ناشئة عن معرفة كمال الذات والصفات، وكل واحدة من هذه الأحوال حاثَّة على الطاعة التي تناسبها، ولا يمكن اكتساب هذه الأحوال في العادة إلا باستحضار المعارف التي هي منشأ لهذه الأحوال. اهـ.

فالعبد قد يتعاطى أسباب محبة غير الله تعالى، ويتمادى في ذلك؛ حتى يستقرّ في قلبه، ولا شك أنه ملوم على تعاطيه هذه الأسباب، وإنما مثل ذلك كمثل من يتعاطى أسباب السكر باختياره -كشرب الخمر مثلًا-، فإنه وإن وقع له السكر بغير اختياره، إلا إنه ملوم على تعاطي أسبابه ابتداء، قال ابن القيم في روضة المحبين: مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف؛ فإن النظر، والتفكّر، والتعرض للمحبة، أمر اختياري، فإذا أتى بالأسباب، كان ترتب المسبب عليها بغير اختياره، وهذا بمنزلة السكر من شرب الخمر، فإن تناول المسكر اختياري، وما يتولد عنه من السكر اضطراري، فمتى كان السبب واقعًا باختياره، لم يكن معذورًا فيما تولّد عنه بغير اختياره، فمتى كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورًا، ولا ريب أن متابعة النظر، واستدامة الفكر، بمنزلة شرب المسكر، فهو يلام على السبب. اهـ

وعلى هذا يقاس بقية أنواع المحبة -سواء ما يمدح منها وما يذم-، فالعبد يتعاطى أسبابها باختياره، وهذا لا شك داخل في نطاق التكليف.

وكذلك بقية أعمال القلوب التي هي انفعال، وليست بفعل، فلا تدخل تحت قدرة العبد؛ ليتسنى تكليفه بها، وإنما يطالب العبد بتعاطي أسبابها المستوجبة لها، ومثال ذلك تحقيق الندم لصحة التوبة، قال الشنقيطي: الندم انفعال ليس داخلًا تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلًا، وليس في وسع المكلف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطاق، فما وجه التكليف بالندم، وهو غير فعل للمكلف، ولا مقدور عليه؟

والجواب عن هذا الإشكال هو: أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف. اهـ.

وقد سبق بيان ذلك في الفتوى: 112769.

وقد أصَّل الشاطبي في الموافقات لهذه المسألة، فقال: إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد، فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه، أو لواحقه، أو قرائنه، فقول الله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل. وقوله: لا تمت وأنت ظالم. وما كان نحو ذلك، ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة، وهو الإسلام، وترك الظلم، والكفّ عن القتل، والتسليم لأمر الله، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل.

وإذا ثبت هذا؛ فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان -كالشهوة إلى الطعام والشراب- لا يطلب برفعها، ولا بإزالة ما غُرِز في الجِبِلَّة منها، فإنه من تكليف ما لا يطاق.

وإن ثبت بالدليل أن ثَمَّ أوصافًا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعًا عليها الإنسان، فحكمها حكمها.

وإذا ثبت هذا، فالذي تعلق به الطلب ظاهرًا من الإنسان على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما لم يكن داخلًا تحت كسبه قطعًا، وهذا قليل، كقوله: ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون.

وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلّق به.

والثاني: ما كان داخلًا تحت كسبه قطعًا، وذلك جمهور الأفعال المكلّف بها، التي هي داخلة تحت كسبه.

والثالث: ما قد يشتبه أمره -كالحب، والبغض، وما في معناها-، فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها، فحيث ثبتت له من القسمين، حكم عليه بحكمه.

والذي يظهر من أمر الحب والبغض، والجبن والشجاعة، والغضب والخوف، ونحوها، أنها داخلة على الإنسان اضطرارًا، إما لأنها من أصل الخلقة، فلا يطلب إلا بتوابعها، فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف، يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية، فالطلب وارد على تلك الأفعال، لا على ما نشأت عنه، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب؛ وإما لأن لها باعثًا من غيره، فتثور فيه، فيقتضى لذلك أفعالًا أخر، فإن كان المثير لها هو السابق، وكان مما يدخل تحت كسبه، فالطلب يرد عليه، كقوله: تهادوا تحابوا. فيكون كقوله: أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه؛ مرادًا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى على العبد، وكثرة إحسانه إليه، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل، وعين الشهوة لم ينه عنه، وإن لم يكن المثير لها داخلًا تحت كسبه، فالطلب يرد على اللواحق؛ كالغضب المثير لشهوة الانتقام، كما يثير النظر شهوة الوقاع، ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها -من الكبر، والحسد، وحب الدنيا والجاه- وما ينشأ عنها من آفات اللسان، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة -كالعلم، والتفكر، والاعتبار، واليقين، والمحبة، والخوف، والرجاء، وأشباهها- مما هو نتيجة عمل، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها. اهـ.

ولمزيد الفائدة، يمكن الاطلاع على الفتويين: 135420، 115481.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني