الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإقعاء المسنون والإقعاء المكروه

السؤال

أريد ـ بارك الله فيكم ـ أن تفتوني في الجلوس بين السجدتين في الصلاة: هل يجوز للمصلي أن يجلس بين السجدتين وفي التشهد الأول والأخير على أطراف أصابعه متجهة إلى القبلة دون ما افتراش ولا تورك؟ وهل يؤثر ذلك على صحة الصلاة؟.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فهذه الصورة المسؤول عنها من الإقعاء, وقد اختلف العلماء هل يشملها النهي عن الإقعاء الوارد في أحاديث كثيرة؟ أو هي مخصوصة من عموم ذلك النهي، فتكون جائزة أو مسنونة، كما أثبت ابن عباس سنيتها فيما أخرجه مسلم عنه، والراجح ـ إن شاء الله ـ أن الجلوس بهذه الكيفية ـ وهي أن ينصب رجليه ويجلس على عقبيه بين السجدتين ـ جائز أو مسنون، وليس منهيا عنه, وبذلك يحصل الجمع بين الأدلة.

وأما في التشهد: فلا نعلم قائلا بمشروعية هذه الجلسة, وإنما تستحب عند القائل باستحبابها بين السجدتين ونحن ننقل طرفا من كلام النووي ـ رحمه الله ـ في شرح المهذب في هذه المسألة والجمع بين الأدلة الواردة في نفي الإقعاء وإثباته، فإنه بالغ في التحرير والإتقان، فعليه الرحمة: جاء في المجموع: فصل في الإقعاء: قد ذكرنا أن الأحاديث الواردة في النهي عنه ـ مع كثرتها ـ ليس فيها شيء ثابت وبينا رواتها, وثبت عن طاوس قال: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين، قال: هي السنة، فقلنا: إنا لنراه جفاء بالرجل، قال: بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم في صحيحه.

وفي رواية للبيهقي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: من سنة الصلاة أن تمس إليتاك عقبيك بين السجدتين.

وذكر البيهقي حديث ابن عباس هذا ثم روى عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول: إنه من السنة، ثم روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يقعيان ثم روى عن طاوس أنه كان يقعي، وقال: رأيت العبادلة يفعلون ذلك: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ قال البيهقي: فهذا الإقعاء المرضي فيه والمسنون على الأرض ويضع إليتيه على عقبيه ويضع ركبتيه على الأرض, ثم روى الأحاديث الواردة في النهي عن الإقعاء بأسانيدها عن الصحابة الذين ذكرناهم، ثم ضعفها كلها وبين ضعفها وقال: حديث ابن عباس وابن عمر صحيح, ثم روى عن أبي عبيد أنه حكى عن شيخه أبي عبيدة أنه قال: الإقعاء: أن يلصق إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه بالأرض ـ قال: وقال في موضع آخر: الإقعاء جلوس الإنسان على إليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ـ قال البيهقي: وهذا النوع من الإقعاء غير ما رويناه عن ابن عباس وابن عمر مسنون. قال: وأما حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى عن عقب الشيطان فيحتمل أن يكون واردا في الجلوس للتشهد الأخير فلا يكون منافيا لما رواه ابن عباس وابن عمر في الجلوس في السجدتين، هذا آخر كلام البيهقي ـ رحمه الله ـ وأوضح إيضاحا شافيا وحرر تحريرا وافيا ـ رحمه الله وأجزل مثوبته ـ وقد تابعه على هذا الإمام المحقق أبو عمرو بن الصلاح فقال بعد أن ذكر حديث النهي عن الاقعاء: هذا الإقعاء محمول على أن يضع إليتيه على الأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض ـ وهذا الإقعاء غير ما صح عن ابن عباس وابن عمر أنه سنة، فذلك الإقعاء أن يضع إليتيه على عقبيه قاعدا عليها وعلى أطراف أصابع رجليه, وقد استحبه الشافعي في الجلوس بين السجدتين في الإملاء والبويطي، وهذا الذي حكاه عن البويطي والإملاء من نص الشافعي قد حكاه عنهما البيهقي, ثم ذكر كلام الخطابي وادعاءه نسخ حديث ابن عباس ثم ضعفه بعدم العلم بالتاريخ وعدم تعذر الجمع، ثم قال: فالصواب الذي لا يجوز غيره: أن الإقعاء نوعان ـ كما ذكره البيهقي وأبو عمرو ـ أحدهما: مكروه، والثاني: جائز أو سنة.

وأما الجمع بين حديثي ابن عباس وغيرهما في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفهم الافتراش على قدمه اليسرى: فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له في الصلاة أحوال, حال يفعل فيها هذا، وحال يفعل ذاك, كما كانت له أحوال في تطويل القراءة وتخفيفها وغير ذلك من أنواعها, وكما توضأ مرة مرة، ومرتين، وثلاثا ثلاثا, وكما طاف راكبا وطاف ماشيا, وكما أوتر أول الليل وآخره وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر, وغير ذلك، كما هو معلوم من أحواله صلى الله عليه وسلم وكان يفعل العبادة على نوعين أو أنواع ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة, ويواظب على الأفضل بينهما على أنه المختار والأولى، فالحاصل: أن الإقعاء الذي رواه ابن عباس وابن عمر فعله صلى الله عليه وسلم على التفسير المختارالذي ذكره البيهقي، وفعل صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو حميد وموافقوه من جهة الافتراش، وكلاهما سنة، لكن إحدى السنتين أكثر وأشهر وهي رواية أبي حميد، لأنه رواها وصدقه عشرة من الصحابة ـ كما سبق ـ ورواها وائل بن حجر وغيره, وهذا يدل على مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها وشهرتها عندهم, فهي أفضل وأرجح, مع أن الإقعاء سنة أيضا، فهذا ما يسر الله الكريم من تحقيق أمر الإقعاء وهو من المهمات لتكرر الحاجة إليه في كل يوم من تكرره في كتب الحديث والفقه واستشكال أكثر الناس له من كل الطوائف. انتهى محل الغرض منه.

وبه يتبين لك أن هذه الجلسة بين السجدتين مسنونة وأن الافتراش أولى منها، لكونه أكثر في الحديث، ولما فيه من الخروج من الخلاف, وأما في التشهد فلم نر من قال بمشروعيتها فيه، وإن جلس على هذه الكيفية لم يؤثر ذلك على صحة صلاته, قال النووي في شرح مسلم بعد ما بين الكيفية المسنونة للجلوس في الصلاة: ثم هذه الهيئة مسنونة، فلو جلس في الجميع مفترشا أو متروكا أو متربعا أو مقعيا أو مادا رجليه صحت صلاته، وإن كان مخالفا. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني