الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإلحاح في الدعاء ورفع الرأس واليدين أثناءه

السؤال

بارك الله لكم جهودكم وجزاكم الله خير الجزاء، سؤالي حول الدعاء والإلحاح فيه: فهل يجوز للمسلم الدعاء بالرزق والإلحاح به ورفع يديه في الدعاء؟ وهل يتناقض مع ما قدره الله لكل إنسان من رزق وعمر وغير ذلك؟ خصوصا أن هناك مقولة يكثر من ترديدها كبار السن في أن الإنسان كلما رفع رأسه بالدعاء ورفع يديه إلى السماء وألح بسؤاله لم يجبه الله، وكلما نظر إلى الأرض ولم يلح إجابه الله، فهل هذا صحيح؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن كثرة الدعاء وتكراره والإلحاح على الله تعالى مرغب فيه شرعاً، وهو من أسباب الإجابة، كما جاء في شعب الإيمان عن الأوزاعي قال: أفضل الدعاء: الإلحاح على الله عز وجل والتضرع إليه.

وقد حض الشارع على الدعاء، فقال سبحانه وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. {غافر: 60 }.

وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت ـ ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يسأل الله يغضب عليه. رواه الترمذي.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: وقال ربكم ادعوني استجب لكم. رواه ابن المنذر والحاكم وصححه..

وقد نص الفقهاء على جواز كل دعاء دنيوي، أو أخروي ما لم يكن إثما، أو قطيعة رحم، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد، ثم قال في آخره: ثم ليتخير من المسألة ما شاء. رواه مسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم يسأل الله الرزق ويأمر بذلك، وكان يستعيذ بالله من الفقر والفاقة، ومن الذلة، ويستعيذ به من المأثم والمغرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال، وهذا كله ثابت في الأحاديث، وكان يدعو: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. رواه مسلم.

وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني. رواه مسلم.

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أن مكاتبا جاءه، فقال: إني قد عجزت عن كتابتي فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل ثبير دينا أداه الله عنك، قال: قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك. رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الحاكم، وحسنه الأرنؤوط والألباني.

وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين وأغننا من الفقر.

وأما رفع اليدين في الدعاء: فهو سنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وقد غذي بالحرام، فأنى يستجاب له.

ولذلك ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الأصل رفع اليدين في الدعاء، فيندب رفعهما، إلا في المواطن التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع فيها، مثل الدعاء في خطبة الجمعة، فلا يسن رفع اليدين فيها.

والدعاء لا يمنع منه كون الأمور مقدرة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره الله تعالى بقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. {الأنفال: 7 }.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إكثار الاستغاثة بالله وسؤاله النصر، ففي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ـ وهم ألف ـ وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ـ فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ـ فأمده الله بالملائكة. اهـ.

وتراجع الفتوى رقم: 118934، لمسألة الدعاء، أو القدر.

وأما رفع البصر إلى السماء في الدعاء: فمنهي عنه في الصلاة، واختلف في غيرها، والجمهور على جوازه قال النووي في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم. وفي رواية: أو لتخطفن أبصارهم ـ فيه النهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك، وقد نقل الإجماع في النهي عن ذلك، قال القاضي عياض: واختلفوا في كراهة رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة، فكرهه شريح وآخرون، وجوزه الأكثرون وقالوا: لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة ولا ينكر رفع الأبصار إليها، كما لا يكره رفع اليد، قال الله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون. اهـ.

وأما كون رفع البصر في الدعاء والإلحاح فيه يمنع الإجابة وعدم ذلك يسبب الإجابة: فلا يصح، وهو مما لا أصل له، فلا يلتفت إليه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني