الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دخول الجنة برحمة الله.. فلم العمل؟

السؤال

لو سمحت أنا إنسانة تائبة والحمد لله، لم تكن الذنوب التي تبت منها كبيرة, لكن دائما تأتيني أفكار أني أتعذب بقبري وأن المؤمن لابد أن يتعذب مهما كان مطيعا لربه، مع أني أصوم وأصلي وأتصدق وأقرأ كل يوم جزءا من القرآن، ولا أغتاب أحدا ولا أسمع أغاني وطائعة لوالدي وأمي, لكن سمعت حديثا أن المؤمن لا يدخل الجنة بأعماله, يدخل برحمة ربه. فلماذا نعمل ما دمنا سندخل برحمة ربي, والله ما أنام الليل أخاف من عذاب ربي, هل كلنا معذبون بالقبر ؟ أم هذه وساوس من الشيطان؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالحمد لله الذي من عليك بالتوبة، ونسأله تعالى أن يثبتنا وإياك على الحق حتى نلقاه، ثم اعلمي وفقك الله أن الخوف من عذاب الله أمر محمود، ولكنه لا يجوز أن يجر إلى اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله وظن السوء بالله تعالى، بل الخوف المحمود هو ما حمل على الجد في الطاعة والتوبة النصوح من المعاصي.

وما ذكرتيه من أن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم وإنما يدخلونها برحمة الله تعالى هو حديث ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته.

وهذا لا يعني أن الأعمال ليس لها قيمة ولا تأثير في دخول الجنة، وإلا فقد قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {الزخرف:72}. وقال: جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. {الواقعة: 24}. ونظائر هذا كثيرة.

والجمع بين هذه الآيات والحديث أن الجنة ليست عوضا للعمل، ولكن العمل سبب لدخول الجنة، وإنما يدخلها من يدخلها برحمة الله إذا أخذ بالسبب الذي جعله الله سببا لدخولها، فإن رحمة الله لا ينالها إلا من اجتهد في طاعة الله وأحسن العمل، كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {الأعراف:56}. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {البقرة:218}.

فعلى العبد أن يقف في مساقط رحمة الله تعالى مجتهدا في العمل الصالح غير راكن إلى هذا العمل عالما أنه إنما يدخل الجنة ويستحق المثوبة بفضل الله ومنته.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، لا يناقض قوله تعالى : جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الواقعة: 24}. فإن المنفي نفى بباء المقابلة والمعاوضة، كما يقال : بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببا للجزاء؛ ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه، فهو ضال، كما ثبت في الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لن يدخل أحد الجنة بعمله " ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " وروي " بمغفرته. انتهى.

وأما عذاب القبر فإن من مات وهو مستحق له فهو تحت مشئية الله فإن شاء ناله شيء منه وإن شاء غفر له فلم يصبه شيء منه بل هو في نعيم وسرور، ففي الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه و سلم؟ فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا، وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين. وزاد فيه مسلم: قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا يعني المؤمن ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون.

وفي حديث البراء الطويل الذي أخرجه أحمد في مسنده وغيره في ذكر حال المؤمن والكافر أو الفاجر عند الموت وبعده قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقفال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخدها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخدوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الريح الطيبة فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولون له من ربك فيقول ربي الله، فيقولون له ما دينك فيقول ديني الإسلام، فيقولون له ما هذا الرجل الذي بعث لكم فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد البصر. قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي... الحديث.

وغير ذلك من النصوص كثير، وهذا واضح الدلالة على أن المؤمنين ينعمون في قبورهم.

فعليك أن تجتهدي في طاعة الله وتستمري في طريق الاستقامة راجية من الله تعالى أن يجعلك من أهل الإيمان الذين ينعمون في قبورهم ويخرجون بالموت من سجن الدنيا إلى سعة الآخرة ونعيمها.

وعليك أن تحسني ظنك بربك تعالى وأن تجمعي بين الخوف والرجاء في طريق سيرك إلى ربك تعالى، فإن الخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يستعين بهما العبد على الطيران في ميدان العبودية، وانكسار أحد الجناحين يمنعه كمال السير.

قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني