الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

توضيح وبيان حول آية الميثاق

السؤال

ما الحكم في من نفى وجود عالم الذر الذي أخذ الله فيه العهد على بني آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم وأوّل المعنى بالغريزة الدينية والشعور الروحاني فقط .وأن قوله: ألست بربكم ؟ قول إرادة وتكوين لا قول وحي وتلقين. جزاك الله على جهودكم في تجلية الحقائق وبيان العقيدة الحقة مما جعل موقعكم ومركز الفتوى في صدارة المواقع الإسلامية العالمية؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فبداية لابد من التنبيه على أمر مهم، وهو أن هناك فرقا عظيما بين إنكار عالم الذر وأخذ الميثاق على آدم وذريته، وبين إنكار كون ذلك تفسيرا لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {الأعراف: 172}.

وأن الميثاق الثابت في السنة هو الميثاق الذي تشير إليه الآية.

فأهل السنة من حيث الجملة يؤمنون بالميثاق وعالم الذر، كما قال الطحاوي في عقيدته: والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. اهـ.

ولكنهم قد اختلفوا في كونه تفسيرا للآية، وجمهورهم يفسر الآية بذلك؛ للأحاديث والآثار المروية فيه، وبعضهم ينكر ذلك ويفرق بين الميثاق المشار إليه في الآية وبين الميثاق الثابت في الأحاديث والآثار، ويضعف ما جاء منها مصرحا بالإشهاد عليهم في عالم الذر، ويفسر الإشهاد في الآية بالفطرة على التوحيد، ويقصر دلالة الأحاديث على إثبات القدر السابق واستخراج صور بني آدم وتميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وهذا ما قرره ابن القيم في (أحكام أهل الذمة) حيث قصر دلالة الأحاديث الصحيحة على ذلك ثم قال: وأما الآثار التي فيها أنه استنطقهم وأشهدهم وخاطبهم فهي بين موقوفة ومرفوعة لا يصح إسنادها ... وبالجملة فالآثار في إخراج الذرية من ظهر آدم وحصولهم في القبضتين كثيرة لا سبيل إلى ردها وإنكارها، ويكفي وصولها إلى التابعين فكيف بالصحابة ! ومثلها لا يقال بالرأي والتخمين، ولكن الذي دل عليه الصحيح من هذه الآثار إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هو أمثالهم أو أعيانهم، فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ولا يدل عليه القرآن. اهـ.

وهذا هو ما رجحه جماعة من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن أبي العز الحنفي وابن كثير وغيرهم، ومن هؤلاء الأستاذ رشيد رضا الذي نقل السائل فحوى كلامه دون أن يصرح باسمه، حيث قال في تفسير المنار: والمعنى واذكر أيها الرسول في إثر ذكر ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطناً بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وأن فوق كل العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلومات، سلطاناً أعلى على جميع الكائنات، وهو الأول والآخر، هو المستحق للعبادة وحده .. وهذا معنى قوله تعالى: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) أي أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلاً قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا. فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل، وهو أعلى أساليب البلاغة وشواهده في القرآن وكلام البلغاء كثيرة. اهـ.

وعلق على ذلك صاحب كتاب (منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة) فقال: وبهذا يميل الشيخ رشيد إلى أحد القولين في تفسير هذا الميثاق، وهو الرأي القائل بأن استخراج الذرية هو خلقه تعالى لها جيلاً بعد جيل على ترتيبهم في الوجود، على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، ودلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل .. وهذا الرأي قد قال به من قبله بعض السلف، ومن القائلين به: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وأما الرأي الثاني، وهو المؤيد بالأحاديث المرفوعة والموقوفة فهو: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق. اهـ.

ثم قال: ومن واجبي الآن أن أبين للقراء، أن الرأي الثاني هو الصواب، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، المرفوعة والموقوفة، ومنها وأصرحها حديث ابن عباس وقد صح مرفوعاً، فوجب المصير إليه وطرح ما سواه، ومما يؤيد المرفوع الآثار الموقوفة، وعدم بيان الميثاق في بعض الأحاديث ليس مستلزماً لعدمه. اهـ.

ورجح ذلك أيضا العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان) وقال: هذا الوجه يدل له الكتاب والسنة ... اهـ. ثم بين ذلك. وكذلك الشيخ الألباني في تعليقه على حديث ابن عباس مرفوعا: أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال : { ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }. (السلسلة الصحيحة 1623).

وهذا هو الراجح إن شاء الله، وأن الإشهاد في الآية حقيقي، سواء أكان ذلك خاصا بالأرواح أو كان لها في أجسادها.

قال ابن القيم في كتاب (الروح): قال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت. وقال الجرجانى: ليس بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته" وبين الآية اختلاف بحمد الله؛ لأنه عز و جل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم لذريته بعضهم من بعض، وقوله تعالى: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) أي عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق .. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد، إن الأرواح هي التي تعقل وتفهم ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم، قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة، قال إسحاق: وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم. اهـ.

وكلام الإمام ابن راهويه نقله أيضا الحافظ ابن عبد البر في (التمهيد) ثم قال بعد بحث المسألة: ومعنى الآية والحديث أنه أخرج ذرية آدم من ظهره كيف شاء ذلك، وألهمهم أنه ربهم فقالوا: بلى، لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ثم تابعهم بحجة العقل عند التمييز، وبالرسل بعد ذلك؛ استظهارا بما في عقولهم من المنازعة إلى خالق مدبر حكيم يدبرهم بما لا يتهيأ لهم ولا يمكنهم جحده، وهذا إجماع أهل السنة والحمد لله. اهـ.

ثم بعد ذلك لزم التنبيه على أن إنكار عالم الذر بالكلية، وأنه لم يُستخرج بنو آدم من ظهره ولا أخذ عليهم ميثاق، أن هذا القول غلط، وأن الأحاديث والآثار ترده، وأن اتفاق أهل السنة على خلافه، ولذلك نسبه الحافظ ابن عبد البر لأهل البدع.

فقال في (التمهيد): وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قول الله عز و جل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم .. ) قالوا: ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم، وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم، وما استخرج قط من ظهر آدم من ذرية تخاطب. اهـ.

وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية: أهل السنة والجماعة اختلفوا جدا في مسألة الميثاق، مع اتفاقهم على حصول الاستخراج من ظهر آدم وأخذ الميثاق عليه. اهـ.

ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 64324 ، 106739.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني