الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قابيل هل هو في الجنة أم في النار

السؤال

حيث إن قابيل قتل أخاه، فما هو مصيره ( جنة أم نار )؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلم نقف على دليل صريح من كتاب أو سنة يبين مصير قابيل هل هو من أهل الجنة أم النار، وليس من شك في أن قابيل عصى الله تعالى معصية عظيمة، وأنه بذلك مستحق للعذاب الأليم، ولو وجد دليل قطعي في أنه مات على الكفر أو على الإيمان لكان مقطوعا بمصيره، ولكن قد اختلف علماء التفسير في شأنه، ورجح كثير منهم أنه عاص لا كافر، فعلى القول بكفره فإنه من الخالدين في النار أبدا، وعلى القول بعدم كفره فإنه لا يخلد في النار قطعا. ولكن لا يمكن الجزم بدخوله الجنة بلا عذاب، أم أنه يكون من أهل النار أولا ثم يصير إلى الجنة. وإليك بعض كلام علماء التفسير.

جاء في تفسير القرطبي: وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس : كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج. قال ابن عطية : وهذا هو الأظهر ، ومن ههنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر ؛ لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه ، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ، ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة ؛ ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه. انتهى.

وقال أيضا: وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل : { فتكون من أصحاب النار } على أنه كان كافرا ؛ لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن. وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى { من أصحاب النار } مدة كونك فيها. انتهى.

وفي المحرر الوجيز لابن عطية: واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار أو من العصاة، والظاهر أنه من العصاة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر. انتهى.

وفي تفسير الثعالبي : واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار أو من العصاة والظاهر أنه من العصاة. انتهى.

وبالرغم مما رجحه بعض علماء التفسير من عدم كفر قابيل، فإنه داخل في جملة من ورد فيهم الوعيد فيمن قتل مؤمنا متعمدا، ومنه قول الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.

كما وردت أخبار صحيحة منها قوله صلي الله عليه وسلم: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما. رواه البخاري وغيره.

وورد في خصوصه هو قوله صلى الله عليه وسلم: ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على بن آدم الأول كفل منها. رواه البخاري وغيره أيضا.

ومع كل هذا فإن القاتل تقبل توبته عند الجمهور إذا تاب توبة صادقة قال ابن كثير في تفسيره: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الفرقان: 67- 69} وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل. والله أعلم .... إلى أن قال : فأما الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا. فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب. انتهى.

ومن ارتكب معصية ثم مات على الإيمان قبل التوبة الصادقة فأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ولا يمكن القطع له بتعذيب أو نعيم، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبادة بن الصامت قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط. فقال: أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف. فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فأخذ به في الدنيا فهو له كفارة وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.

وفي شرح النووي لصحيح مسلم : وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله تعالى عليه أو بفعل ما حرم عليه فهو في المشيئة لا يقطع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنة لأول وهلة، بل يقطع بأنه لابد من دخوله الجنة آخرا، وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه، وان شاء عفا عنه بفضله. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني