الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف نوفق بين كونه تعالى حليما وكونه سريع العقاب

السؤال

كيف نوفق بين كون المولى عز وجل سريع العقاب وبين كونه تعالى حليما؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أخبر الله تعالى عن نفسه في كتابه بأنه سريع الحساب في ثماني مواضع، منها قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ { إبراهيم: 51}.

وأخبر أنه سريع العقاب في موضعين، وهما قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {الأنعام: 165}.

وقوله سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {الأعراف: 167}.
قال السعدي: إن ربك سريع العقاب لمن عصاه وكذب بآياته، وإنه لغفور رحيم لمن آمن به وعمل صالحا وتاب من الموبقات. اهـ.
وقال في الآية الثانية: إن ربك لسريع العقاب ـ لمن عصاه، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا: وإنه لغفور رحيم ـ لمن تاب إليه وأناب، يغفر له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات. اهـ.
وبذلك يكون متعلق الحلم والرحمة غير متعلق سرعة الحساب والعقاب، فلكل صنف من الناس من المعاملة ما يليق أن يعامل بها مثله، ويؤكد هذا قول السعدي في بيان معنى اسم الله: الحليم ـ الحليم الذي له الحلم الكامل والذي وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا ولا يهملهم إذا أصروا واستمروا في طغيانهم ولم ينيبوا. اهـ.
وهناك منحى آخر في الجمع، حيث نقل البيهقي في الأسماء والصفات عن الحليمي في معنى: سريع الحساب قال: قيل: معناه لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره فيطول الأمر في محاسبة الخلق عليه، وقد قيل: معناه أنه يحاسب الخلق يوم القيامة في وقت قريب، لو تولى المخلوقون مثل ذلك الأمر في مثله لما قدروا عليه ولاحتاجوا إلى سنين لا يحصيها إلا الله تعالى. اهـ.
وقال الدكتور محمود الرضواني في أسماء الله الحسنى: قال تعالى: واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ ـ أَي حِسابُه واقعٌ لا مَحالةَ، وسُرْعَةُ حِسابِ اللَّه أَنه لا يَشْغَلُه حِسابُ واحد عَن مُحاسَبةِ الآخَر، لأَنه سبحانه لاَ يَشْغَلُه سَمْع عن سمع، ولا شَأنٌ عن شأنٍ. اهـ.
وقال الشيخ الشعراوي في تفسير آية الأنعام: سبحانه سريع العقاب، وإياك أن تستبطئ الآخرة، فالثواب والعقاب سيأتي بعد أن ننتهي ونموت، وليس للموت سبب، فكل إنسان عرضة لأن يموت، وبذلك تكون قيامته قد قامت، وإن قامت قيامة الإنسان فلن يقوم بأي عمل آخر، إذن فسبحانه سريع العقاب، ولكن البعض من القوم يغريهم حلم الله ويستبطئون الآخرة. اهـ.
وقال في آخر السورة: لا تظنوا أن عقابي بعيد، لأن ما بين الإنسان والعقاب أن يموت، وليس هناك سبب معروف للموت، فمن الممكن أن يموت الإنسان لوقته، فيبدأ عقابه. اهـ.
وعلى هذا التفسير يكون متعلق ذلك الآخرة لا الدنيا، وهذا لا يتعارض مع حلم الله تعالى في الدينا.

وعلى وجه العموم لابد من التنبه إلى أن الحليم اسم من أسماء الله الحسنى، والحلم صفة من صفاته العلى، وأما سرعة الحساب والعقاب فهو صفة لفعل ومفعول من أفعال الله تعالى يتعلق بالعباد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أسماؤه تعالى تدل على صفاته، وذلك كله خير حسن جميل ليس فيه شر، وإنما وقع الشر في المخلوقات، قال تعالى: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم، وقال تعالى: اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم، وقال تعالى: إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ـ فجعل المغفرة والرحمة من معاني أسمائه الحسنى التي يسمي بها نفسه فتكون المغفرة والرحمة من صفاته، وأما العقاب الذي يتصل بالعباد فهو مخلوق له وذلك هو الأليم فلم يقل: وإني أنا المعذب. اهـ.
وقال ابن القيم كما في مختصر الصواعق المرسلة: هو سبحانه إذا ذكر الرحمة والإحسان والعفو نسبه إلى ذاته، وأخبر أنه من صفاته، وإذا ذكر العقاب نسبه إلى أفعاله ولم يتصف به، فرحمته من لوازم ذاته، وليس غضبه وعقابه من لوازم ذاته، فهو سبحانه لا يكون إلا رحيما، كما أنه لا يكون إلا حيا عليما قديرا سميعا، وأما كونه لا يكون إلا غضبانا معذبا فليس ذلك من كماله المقدس، ولا هو مما أثنى به على نفسه وتمدح به. اهـ. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 68766.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني