الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التحليل والتحريم حق خالص لله تعالى

السؤال

ما حكم من قال لشخص متحدثا عن طرف ثالث: هو حر، يحلل ويحرم على كيفه، براحته، ما شأنك أنت.
وماذا إذا ذُكر له أن التحليل والتحريم حق لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعجب واستشهد بفتاوى الشيوخ وتحليلهم وتحريمهم.
ما حكم هذا الشخص ؟ وهل هذا من اتخاذ أرباب من دون الله ؟ وهل تلزمه التوبة ؟علما أن الطرف الثالث ليس عالما أو ما إلى ذلك؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن من الخطأ المحرم قول القائل إن شخصا ما له الحرية في التحليل والتحريم، فإن التحليل والتحريم من التشريع الذي يجب على العباد إفراد الله عز وجل به كإفراده بالعبادة.

ومن الخطأ أيضا قوله للناصح المنكر ذلك "ما شأنك أنت" فالمسلم يجب عليه إنكار المنكر إذا سمعه بقدر استطاعته وتثبيطه عن ذلك ومنعه منه محرم.

كما يحرم على المسلم التحليل والتحريم دون استناد للشرع لما فيه من الافتراء على الله تعالى، فقد قال الله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ.{النحل:116}. ولأن القول على الله بغير علم جاء في القرآن الكريم مقرونا بأكبر الكبائر وأعظم الذنوب، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ.{الأعراف:33}.

ومن المعلوم قطعاً أن التشريع المطلق -تحريماً وتحليلاً وتشريعاً- إنما هو حق خالص لله تعالى.

قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ. {يونس:59}. وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه. {الشورى:21}. وقال الله تعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً {الكهف:26}.

وقال سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. {يوسف:40}. وقال سبحانه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. {المائدة:50}

وقال الله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ. {الأنعام:57}، وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. {الشورى:10}. وقال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. {النساء:59}.


والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.

وأما العلماء فهم لا يحلون ولا يحرمون من تلقاء أنفسهم، ولكنهم يبينون الأحكام حسب ما يستنبطون من نصوص الوحي. ولذلك أمر الله تعالى بسؤالهم فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.[ النحل:43]. وقال تعالى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.[النساء: 83] وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. {النساء:59}.

وأولوا الأمر قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلِّمون الناس معالِمَ دينهم. وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد. كما ذكر البغوي في تفسيره.
والواجب على المسلم الوقوف عند حدود الله تعالى، وإذا بين له الحكم الشرعي في أمر أو مسألة أن يقول: سمعنا وأطعنا، فهذه صفات المؤمنين كما جاءت في نصوص الوحي من القرآن والسنة، ومتى ظهر الدليل وجب الأخذ به ولا يجوز العدول عنه، ولا عذر لأحد عند الله في اتباع قول يعلم أن الدليل ثابت بخلافه، ومن فعل ذلك لزمته التوبة والرجوع للحق، وإن تعصب للباطل فأطاع المبطلين مع علمه بحكم الله لحقه نصيب من الذم المذكور في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه {التوبة:31}. فعن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه. رواه الترمذي وحسنه الألباني.

وقال ابن القاسم في حاشيته على كتاب التوحيد: دلت على أن من أطاع غير الله في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله فقد اتخذه ربا ومعبودا، وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد، فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع ربا ومعبودا، والرب هو المعبود، ولا يطلق معرفا إلا على الله تعالى، قال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة. اهـ.

وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان عند قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [الشورى: 10]: ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده لا إلى غيره، جاء موضحاً في آيات كثيرة، فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: (ولا يشرك في حكمه أحدا) [الكهف: 26]. وفي قراءة ابن عامر من السبعة ( ولا تشرك في حكمه أحدا) ، وقال في الإشراك به في عبادته ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله، وبذلك تعلم أن الحلال ما أحله الله، وأن الحرام ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله، أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه، وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) [الأنعام: 57] وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] وقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) [القصص: 88] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً كقوله تعالى: (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) [النحل: 100] وقوله تعالى: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) [الأنعام: 121] وقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان) [يس: 60] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً . انتهى .
ولكنه لا يكفر الشخص المعين إلا بعد استيفاء شروط التكفير، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على آية اتخذوا أحبارهم ... : فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن الله به من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب كما يلحق الآمر الناهي، ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه فيتخلف الذم لفوات شرطه أو وجود مانعه وإن كان المقتضي له قائما، ويلحق الذم من تبين له الحق فتركه أو قصر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلبه لهوى أو كسل ونحو ذلك. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني