الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم الاعتماد على البصمة الوراثية في كشف الجرائم

السؤال

ما هو الحكم الشرعي من ناحية الاستدلال بالبصمة الوراثية في الكشف عن الجرائم ؛ سيّما و أنّ الجرائم في الإسلام تثبت إمّا باليمين الحاسمة أو الإقرار أو شهادة عدد معين من الشهود ؟
وماذا لو أنكر المجرم الذي أثبتت البصمة ارتكابهِ للجرم ؛ أو قام بتقديم الشهود و حلف اليمين على عدم ارتكابه للجرم ؛ فبأيِّ من الدلائل نأخذ من الناحية الشرعية ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن البصمة الوراثية من وسائل الإثبات التي أثبت العلم التجريبي صدقها والاعتماد عليها، وقد جاء في قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشر المنعقدة بمكة المكرمة أنه لا مانع شرعاً من الاعتماد علي البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص لخبر: ( ادرؤوا الحدود بالشبهات ) وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع ، ويؤدي إلي نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم ، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة . ... اهـ

وقد ذكر ابن القيم في اعلام الموقعين أن البينة التي يثبت بها الحق لا تقتصر على الشهود واليمين بل تعم كل ما يبين الحق.

فقال رحمه الله تعالى: البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء, حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين, ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص وحملها على غير مراد المتكلم منها، وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص, ونذكر من ذلك مثالا واحدا, وهو ما نحن فيه لفظ البينة فإنها في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } وقال : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات } وقال : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة }. وقال : { قل إني على بينة من ربي }. وقال : { أفمن كان على بينة من ربه } وقال : { أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه }. وقال: { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } وهذا كثير , لم يختص لفظ البينة بالشاهدين , بل ولا استعمل في الكتاب فيهما ألبتة . إذا عرف هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي: ألك بينة. وقول عمر " البينة على المدعي " وإن كان هذا قد روي مرفوعا المراد به ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة, فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له, ولا يرد حقا قد ظهر بدليله أبدا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها, ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه, كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامة وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره, ولا عادة له بكشف رأسه, فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد عند كل أحد ; فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة, ويضيع حقا يعلم كل أحد ظهوره وحجته, بل لما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم, فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين, وصار الظالم الفاجر ممكنا من ظلمه وفجوره , فيفعل ما يريد , ويقول لا يقوم علي بذلك شاهدان اثنان, فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده, وحينئذ أخرج الله أمر الحكم العلمي عن أيديهم, وأدخل فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى, ويحصل به العدوان تارة والعدل أخرى , ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المغنية عن التفريط والعدوان .اهـ

وقد جاء في كتاب البصمة الوراثية للشيخ عمر السبيل أنه يجوز الاستدلال من خلال نتيجة البصمة الوراثية علي مرتكبي الجرائم ، ومعرفة الجناة عند الاشتباه ...فإنه - كما يري المختصون - يمكن الاستدلال عن طريق البصمة الوراثية علي مرتكب الجريمة والتعرف علي الجاني الحقيقي من بين المتهمين من خلال أخذ ما يسقط من جسم الجاني الحقيقي من بين المتهمين من خلال أخذ ما يسقط من جسم الجاني في محل الجريمة وما حوله، وإجراء تحاليل البصمة الوراثية على تلك العينات المأخوذة، ومطابقتها علي البصمات الوراثية للمتهمين بعد إجراء الفحوصات المخبرية علي بصماتهم الوراثية . فعند تطابق البصمة الوراثية للعينة المأخوذة من محل الجريمة، مع نتيجة البصمة الوراثية لأحد المتهمين ، فإنه يكاد يجزم بأنه مرتكب الجريمة دون غيره من المتهمين، في حالة كون الجاني واحداً . وقد يتعدد الجناة ويعرف ذلك من خلال تعدد العينات الموجودة في مسرح الجريمة ، ويتم التعرف عليهم من بين المتهمين من خلال مطابقة البصمات الوراثية لهم مع بصمات العينات الموجودة في محل الجريمة. ويري المختصون أن النتيجة في هذه الحالات قطعية أو شبه قطعية ولا سيما عند تكرار التجارب ، ودقة المعامل المخبرية ، ومهارة خبراء البصمة الوراثية ، فالنتائج مع توفر هذه الضمانات قد تكون قطعية أو شبه قطعية الدلالة على أن المتهم كان موجوداً في محل الجريمة . لكنها ظنية في كونه هو الفاعل حقيقة .... بناء علي ما ذكر عن حقيقة البصمة الوراثية ، فإن استخدامها في الوصول إلي معرفة الجاني ، والاستدلال بها كقرينة من القرائن المعينة علي اكتشاف المجرمين، وإيقاع العقوبات المشروعة عليهم في غير الحدود والقصاص، أمر ظاهر الصحة والجواز، لدلالة الأدلة الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة علي الأخذ بالقرائن، والحكم بموجبها ومشروعية استعمال الوسائل المتنوعة لاستخراج الحق ومعرفته ... وإنما قيل بمشروعية الأخذ بالبصمة الوراثية كقرينة من القرائن التي يستدل بها على المتهم في قضايا الجرائم المختلفة، ولكن لا يثبت بموجبها حد ولا قصاص، لأمرين : أما الأول : فلأن الحد والقصاص لا يثبت إلا بشهادة أو إقرار ، دون غيرهما من وسائل الإثبات عند كثير من الفقهاء . وأما الثاني : فلأن الشارع يتشوف إلي درء الحد والقصاص، لأنهما لا يُدرءان بأدني شبه أو احتمال . والشبه في البصمة الوراثية ظاهرة ، لأنها إنما تثبت بيقين هوية صاحب الأثر في محل الجريمة ، أو ما حوله ، لكنها مع ذلك تظل ظنية عند تعدد أصحاب البصمات علي الشيء الواحد أو وجود صاحب البصمة قدراً في مكان الجريمة قبل أو بعد وقوعها ، أو غير ذلك من أوجه الظن المحتملة ...اهـ

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني