الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الصبر على الزوج المصاب بداء الشك وحكم رفع الصوت عليه ردا على إساءته

السؤال

شيخنا الجليل: احترت كيف أبدأ سؤالي فمشكلتي عويصة ومؤثرة وما أرجوه منكم هو أن تتفهموا هذه الحكاية وتجيبوني: نحن عائلة متكونة من أب وأم وثلاث أخوات وأخ، بدأت مشكلتنا بعد زواج أبي وأمي بسنة تقريبا، مرض أبي بمرض يسمى الشك، كان في بداية الأمر مجرد وساوس لكن سرعان ما تطور به الحال ليصبح مرضا مزمنا، فقد أصبح يشك في تصرفات أمي كاملة: إن أكثرت في العبادة والصلاة وقيام اليل يقول إنها نادمة على فعلها وإن تقربت إليه خيل إليه أنها تريد التحايل عليه، صدقني حتى في أبسط التصرفات كالاستحمام والأكل والشرب وحتى في طريقة نومها، فإن التفتت إلى شق آخر أثناء نومها من دون أن تشعر يقول إنها تنظر إلى شخص آخر وإن نظرت إليه يقول إنها تنظر وراءه، لا أطيل عليكم فقد أصبح أبي يشك في كل شيء حتى وإن شاهد شخصا يبتسم في الطريق خيل إليه أنه صديق أمي وأنه يستهزئ منه ويذهب إلى المنزل ويضع حجارة في مدخل الباب الداخلي والخارجي وإن تحركت هذه الحجارة فإن شكه في محله ويظن أن ما من أحد يفهمه وهو مظلوم، هكذا هي حياتنا وحياة أمي وأبي باختصار منذ طفولتنا، لا ندري إن كانت حالة أبي سحرا أم مرضا ولكن ما أعرفه هو أن أبي صحته تتعكر يوما بعد يوم خاصة بعد أن تقاعد عن العمل فقد أصبح يخصص كامل وقته لحراسة أمي وخنقها بعباراته اللاذعة، نسيت أن أقول لكم إن أمي وأبي تزوجا عن قرابة فهما أبناء عم وخالة وجيران في طفولتهما وأمي شديدة التدين والورع وهذا ما جعلها تصبر كل هذا العمر، في البداية لم تتجرأ على أن تخبر أحدا ثم تفاقمت عليها المصاعب وحكت لعائلته وعائلتها ليقنعوه بالمعالجة عند طبيب نفساني إلا أنه رفض رفضا باتا واعتبر كل الناس ضده ولا يفهمونه، وأمي الآن تريد اللجوء إليكم لكي تدلوها على الحل علما أنها تشعر بالذنب لأنها أصبحت ترفع صوتها عليه عندما يتهمها ويصب عليها لعنات دامية ولأنها هجرته في الفراش منذ أكثر من خمس سنوات وبرضا منه وقد تقدمت بها السن ولم تعد قادرة على التحمل وتخاف تأنيب الضمير إن طلقته، لأنها تخاف على سمعتنا وتخاف عليه إن تركته وحده بعد طول هذه العشرة وبعد أن تقدمت به السن وتقدم به مرض الشك خاصة أنها سبق أن ذهبت إلى دار أختي لتريح أعصابها إلا أن وضعه ازداد تدهورا وأصبح ينام خائفا وبجانبه ساطور ونحل جسمه، وهذه هي الحال، وأمي تعتبر نفسها تخسر دنياها وآخرتها إن بقيت على ذمته لأنها ترفع صوتها عليه أحيانا ولأنها هجرته في الفراش منذ أكثر من خمس سنوات وبرضا منه وتخاف تأنيب الضمير إن طلقته، فما الحل؟ نحن بحاجة ماسة إليكم وجزاكم الله كل خير أرجوكم أجيبونا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله تعالى أن يزيل همكم، وأن يفرج كربكم، وأن يصلح والدكم وعليكم بالدعاء والتضرع إلى المولى الرحيم، فهو مجيب دعوة المضطرين، قال الله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ {النمل: 62}.

وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {غافر: 60}.

واحرصوا على دعوات المكروب، ودعاء الهم والغم والحزن، وراجعوا هذه الدعوات بالفتوى رقم: 53348.

وقد بينا في الفتوى رقم: 111948، خطر مرض الشك والغيرة المفرطة وأن علاج المصاب بذلك يكون بمراجعة الطبيب النفسي وأنه يجوز للزوجة عند التضرر من ذلك طلب الطلاق.

فلا حرج على والدتكم في طلب الطلاق لهذا الضرر، ويمكنكم مراجعة بعض المتخصصين في الطب النفسي لعلهم يفيدونكم في الأمر ولا مانع من الرقية الشرعية فإنه يشرع عملها للمصاب وغيره، وراجع الرقية في الفتوى رقم: 80694 .

وما دام الوالد رجلا كبيرا وعنده أولاد فقد لا يصله ضرر كبير من طلاق زوجته والله سبحانه يقول: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا {النساء:130}

ولكن الأولى بالوالدة أن تصبر وتحرص على قريبها وأبي عيالها وتقابل إساءته بالإحسان وتواظب على التعوذات المأثورة وتتحصن بها من ظلم الأب وغيره، فهذا أقوى ما يجلب المودة ويقي شر نزغات الشيطان، كما قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ { فصلت:34}.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ. رواه مسلم.

وأما شعورها بالخسران في تعاملها معه: فإن هجره في الفراش برضاه لا حرج فيه ، وأما إن كان بغير رضاه فإن امتناع المرأة عن طاعة زوجها في الفراش من غير عذر يعتبر من كبائر الذنوب التي توجب لها اللعن والسخط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، لعنتها الملائكة. رواه البخاري.

وقوله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها. رواه مسلم.

وأما رفع الصوت عليه عندما يتهمها ويصب عليها اللعنات فإن كانت تجيبه وترد عليه قوله من دون اعتداء، بل من باب القصاص فهذا لا حرج فيه فقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا إثم على الزوجة إذا عاملت زوجها بمثل ما يعاملها به، ولا يعتبر ذلك منها إساءة إليه، لقول الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ {البقرة:194}.

ذكره العلوي في نوازله وهو ما نظمه ابن مايابى فقال:

ولا إساءة إذا الزوج ابتدا * بمثلها لقوله: من اعتدى.

ويدل لذلك قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ { الشورى:40-41}.

ويجب عليها عدم مجاوزة المثل، كما يدل لذلك الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المستبان ما قالا فعلى البادئ، ما لم يعتد المظلوم.

قال الإمام النووي رحمه الله: معناه أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مما قال له، وفي هذا جوز الانتصار ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة قال الله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ـ ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وللحديث المذكور بعد هذا مازاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ثم قال بعد ذلك رحمه الله: ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبه ما لم يكن كذبا أو قذفا أو سبا لأسلافه فمن صور المباح أن ينتصر بيا ظالم أو يا أحمق أو جافي أو نحو ذلك، لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف، قالوا وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقه وبقي عليه إثم الابتداء أو الإثم المستحق لله تعالى، وقيل يرتفع عنه جميع الإثم بالانتصار منه ويكون معنى على البادئ أي عليه اللوم والذم لا الإثم. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني