الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السر في شيوع استعمال الفعل دون العمل في حق الله تعالى

السؤال

لماذا يعبر الله سبحانه وتعالى عن أفعاله بصيغة: يفعلون ـ وليس بصيغة: يعملون؟ وما الفرق بين الفعل والعمل؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد ذكر العلماء أن هناك فرقا في الاستعمال القرآني للفعل والعمل، وفي إضافة ذلك إلى الله تعالى، وقد ذكر الحافظ ابن رجب في فتح الباري وجوها للفرق بينهما فقال: ومنهم من قال: العمل ما يحتاج إلى علاج ومشقة، والفعل أعم من ذلك، ومنهم من قال: العمل ما يحصل منه تأثير في المعمول كعمل الطين آجرّاً، والفعل أعم من ذلك، ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرف ورفعة، بخلاف الفعل، فإن مقلوب عمل لمع ومعناه ظهرَ وأشرفَ، وهذا فيه نظر، فإن عمل السيئات يسمى أعمالا كما قال تعالي: مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، وقال: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ـ ولو قيل عكس هذا لكان متوجها، فإن الله تعالى إنما يضيف إلى نفسه الفعل، كقوله تعالى: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ـ وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا، وليس المراد هنا الصفة الذاتية بغير إشكال وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام، واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ. اهـ.

وأما بخصوص شيوع استعمال الفعل دون العمل في حق الله تعالى، فأول من وقفنا على كلامه في بيان السر في ذلك: العلامة بدر الدين الزركشي حيث قال في البرهان في علوم القرآن: والفرق بينهما ـ يعني عمل وفعل ـ أن العمل أخص من الفعل، كل عمل فعل ولا ينعكس، ولهذا جعل النحاة الفعل في مقابلة الاسم لأنه أعم، والعمل من الفعل ما كان مع امتداد، لأنه فعل، وباب فَعَل لِمَا تكرر، وقد اعتبره الله تعالى فقال: يعملون له ما يشاء ـ حيث كان فعلهم بزمان، وقال: ويفعلون ما يؤمرون ـ حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين، فينقلون المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه، وقال تعالى: مما عملت أيدينا، وما عملته أيديهم ـ فإن خلق الأنعام والثمار والزروع بامتداد، وقال: كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم تر كيف فعل ربك بعاد ـ وتبين لكم كيف فعلنا بهم، فإنها إهلاكات وقعت من غير بطء، وقال: وعملوا الصالحات ـ حيث كان المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة، وقال: وافعلوا الخير ـ بمعنى سارعوا، كما قال: فاستبقوا الخيرات ـ وقال: والذين هم للزكاة فاعلون ـ أي يأتون بها على سرعة من غير توان في دفع حاجة الفقير، فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع. اهـ.

وذكر مثل ذلك السيوطي في الإتقان في علوم القرآن وفي معترك الأقران في إعجاز القرآن، وعلق على ذلك الأستاذ أحمد ياسوف في كتابه جماليات المفردة القرآنية فقال: يشير ـ يعني الزركشي ـ إلى دقّة الزمن المطلوب في كل من الدلالتين، ولم يكن أساسه من الموروث اللغوي، بل برهن على اطراد هذا الاستعمال في القرآن، وهو لا يتأثّر بالخطّابي الذي رأى خصوصية فعل بالعقوبات، فقد اختصّ فعل بالأفعال القبيحة من البشر أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، فقد دلّنا الزركشي إلى أن فعل إذا نسب إلى الله فإنه يتّسم بالقوة والسرعة، ولا يقتصر على معنى العقوبة، كما مرّ في الفصل الأول، يقول تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ـ وكل مظاهر القيامة تدلّ على السرعة والقوة. اهـ.

فالفعل: إيجاد الأثر من غير بُطْءٍ ويقتضي سرعة الحدث، ومنه الانفعال وقوة التأثير وسرعة الاستجابة، وأما العمل فيدل على اتصال الحدث وامتداد الزمان، فأصل العمل في اللغة: الدَّأَب والمثابرة، ومما يمكن الاستفادة منه في هذا الباب ما أورده أبو حيان التوحيدي في المقابسات حيث قال: سألت أبا سليمان ـ يعني السجستاني المتوفى سنة 375 هـ ـ عن الفرق بين الفعل والعمل فقال: الفعل يقال على ما ينقضي، والعمل يقال على الآثار التي تثبت في الذوات بعد انقضاء الحركة، قال: والفعل أيضاً يعم كل معنى صادر عن ذات، وحد الفعل أنه كيفية صادرة عن ذات، والانفعال كيفية واردة على ذات، فالفعل يقال على التحقيق على هذا المعنى. اهـ.

وقال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية: قال البلخي رحمه الله تعالى: من الأفعال ما يقع في علاج وتعب واحتيال ولا يقال للفعل الواحد عمل، وعنده أن الصفة لله بالعمل مجاز، وعند أبي علي رحمه الله أنها حقيقة، وأصل العمل في اللغة الدُّؤوب. اهـ.
وأخيرا ننبه على أن بعض أهل العلم قد ذكر العمل في صفات الله تعالى كما ذكر الفعل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التدمرية: وصف الله نفسه بالعمل، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، ووصف عبده بالعمل فقال: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ـ وليس العمل كالعمل. اهـ.

وقال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان: أما الصفات الفعلية، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته، فمن ذلك وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه ... ووصف نفسه بالعمل فقال: أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما، الآية، وقال في وصف الحادث به: إنما تجزون ما كنتم تعملون. اهـ.

وذكر الدكتور علوي السقاف في صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة صفتي: الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ، فقال: هما صفتان ثابتتان لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة. اهـ.

وكذلك الشيخ عمر الأشقر في كتاب العقيدة في الله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني