الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رضا الناس يأتي بعد رضا الله تعالى

السؤال

عندي شبهة تتمثل في أنني عندما أرفض مصافحة الفتيات ينفر الناس مني، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ـ فلماذا لا يرضى عني الناس في هذه الحالة؟ في أشد الحاجة للإجابة مع الدليل بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد روى الترمذي من حديث عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ.

ورواه ابن حبان بلفظ: من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عن، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

فإذا عملت أيها السائل بطاعة الله تعالى رضي الله عنك وأرضى عنك الناس, وأما قولك: فلماذا لا يرضى عني الناس؟ فإننا نلخص الجواب عليه في النقاط التالية:

أولا: أن الحديث يدل على أن رضى الناس يأتي بعد رضى الله تعالى, فهل تستطيع أن تجزم أن الله راض عنك حتى تورد هذا الإشكال وتقول لماذا لم يرض عني الناس؟!!! وعملك بطاعة الله تعالى في عدم مصافحة النساء لا يلزم منه أن الله رضي عنك، إذ قد تكون لك ذنوب ومعاص أخرى حالت بينك وبين ذلك, فما تجده من النفور من بعض الناس ربما كان بسبب ذنوب ومعاص أخرى حالت دون رضا الله عنك فلم يُرض عنك الناس.

ثانيا: لو فرض أن الله راض عنك فإنه سيُرضي عنك الناس ولا شك كما في الحديث وكما دل عليه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {مريم: 96}.

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل، لمتابعتها الشريعة المحمدية يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد... اهـ.

ولكن ليس معنى هذا أن كل الناس يرضون عنه ويحبونه، بل المقصود أهل الطاعة والإيمان, ولذا قال قتادة في تفسير هذه الآية ـ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ـ في قلوب أهل الإيمان... اهـ.

وكذا قوله في الحديث: أرضى عنه الناس ـ لا يلزم منه أن يرضى عنك كل من تعرفه أو يعرفك من الناس, قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في معنى هذا الحديث: وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة. اهـ.

ومن المعلوم أن كثيرا من الناس الآن لا تسلم قلوبهم من الأغراض أو الهوى ولا يدركون عاقبة الطاعة وعاقبة المعصية.

ثالثا: إذا لم يرض عنك بعض معارفك من الناس الآن فإنهم قد يرضون عنك مستقبلا بعد أن يعلموا أنك كنت حريصا على طاعة الله تعالى فلا تستعجل رضاهم, قال الشيخ الغنيمان في شرح كتاب التوحيد عند شرحه لهذا الحديث: والذي أسخطه في رضى الله قد يعود عليه حامداً ومحباً، ولا يلزم أن يكون هذا النصر وعود من أسخطه محباً له لكل أحد ولكن الغالب وجوده، إلا أن يكون هذا في الكفار والمنافقين فإن ذلك لا يقع منهم، وأما إذا كان ذلك مع المؤمنين الضعفاء أصحاب المعاصي، فتقرب صاحب الحق إلى الله جل وعلا بإسخاطهم، فإن الغالب أن الله يرضيهم عنه، وكذلك يكونون محبين له جزاءً لصبره ومجاهدته... اهـ.

رابعا: لفظ الناس اسم جمع يصدق على القليل والكثير وليس في كل الأحوال يراد به العموم وقد يطلق ويراد به جماعة منهم لا كل الناس, ومن ذلك قول الله تعالى عن الريح التي عذب بها عادا قوم هود: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ {القمر:20}.

والمقصود بالناس الكفرة من عاد وليس كل الناس أجمعين, وفي سورة يوسف: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ {يوسف:46}.

والمراد الملك وأصحابه وليس كل الناس, وقال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا {الإسراء:94}.

والمراد مشركي مكة أو الكفار عموما ولا يدخل فيها المؤمنون, والشواهد على هذا كثيرة، فليس بالضرورة أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: أرضى عنه الناس ـ أن كل الناس من معارفه سيرضون عنه, إذ أهل الفسق والفجور لا يرضون عن الصالحين , وحسبك أن يرضى عنك الصالحون.

خامسا: إذا تبين لك المقصود من الحديث فاعلم أن رضا جميع الناس غاية لا تدرك في الغالب, وقد روى أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: يا ربيع رضى الناس غاية لا تدرك فعليك بما يصلحك فالزمه فإنه لا سبيل إلى رضاهم... اهــ.

وروى أيضا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي رحمة الله عليه: يا أبا موسى، رضا الناس غاية لا تدرك، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه، ودع الناس وما هم فيه. اهـ.

والله أعلم

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني