الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة في رعي الأنبياء الغنم قبل بعثتهم

السؤال

في اعتقادي أن سبب رعي الأنبياء عليهم السلام للغنم أنهم كانوا مخطئين, لكن الله عز وجل ذكر لنا أنهم معصومون عن الخطأ, وأنا دائمًا أفكر أنهم أخطؤوا لأن الله عز وجل جعلهم رعاة غنم, فرعي الغنم يسبب الهمَّ, فالغنم ليس لديه عقلًٌ, وليس في رعي الغنم معنى الصبر, فالصبر هو في زراعة الأشجار, فهل هذا صحيح؟
جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلم يتضح لنا مراد السائل تمامًا، ولكن كأنه يقول: ليس الحكمة في رعي الأنبياء للغنم تعويدهم على الصبر، ولو كان كذلك لعملوا بالزراعة!!
فإن كان هذا مراده: فليس بصواب، فإن رعي الغنم يحتاج إلى صبر ورفق، قال الحافظ في الفتح: لأنهم إذا صبروا على رعيها, وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها, وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها, ورفقوا بضعيفها, وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة؛ لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم, وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها اهـ.

وقد أشار غير واحد من أهل العلم إلى حكمة ذلك: قال ابن بطال في شرح البخاري: معنى قوله عليه السلام: "ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم" - والله أعلم - أن ذلك توطئة وتقدمةً في تعريفه سياسة العباد، واعتبارًا بأحوال رعاة الغنم، وما يجب على راعيها من اختيار الكلأ لها، وإيرادها أفضل مواردها، واختيار المسرح والمراح لها، وجبر كسيرها، والرفق بضعيفها، ومعرفة أعيانها وحسن تعهدها، فإذا وقف على هذه الأمور كانت مثالاً لرعاية العباد، وهذه حكمة بالغة. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الإخنائي: في ذلك للأنبياء حكمة بالغة, وتدريج من الله تعالى لهم إلى كرامته، وتدريب برعايتها لسياسة أممهم من خلقه بما سبق لهم من الكرامة في الأزل ومتقدم العلم بذلك. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: والذي قاله الأئمة: إن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم؛ ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم. اهـ.
وقال نور الدين الحلبي في إنسان العيون, وتبعه إسماعيل حقي في روح البيان: من حكمة الله عز وجل في ذلك أن الرجل إذا استرعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفًا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولًا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. اهـ.
ومما يحسن ذكره هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: الفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل, والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم. وفي رواية: والسكينة والوقار في أهل الغنم. متفق عليه.

قال القاري في مرقاة المفاتيح: قال القاضي: تخصيص الخيلاء بأصحاب الإبل، والوقار بأهل الغنم يدل على أن مخالطة الحيوان تؤثر في النفس, وتعدي إليها هيئات وأخلاقًا تناسب طباعها وتلائم أحوالها، قلت: ولهذا قيل الصحبة تؤثر في النفس، ولعل هذا أيضًا وجه الحكمة في أن كل نبي رعى الغنم. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني