الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهة حول قوله تعالى: بل يداه مبسوطتان. والجواب عنها

السؤال

يا شيخ قد تعلمنا أنه لا يجوز اقتطاع كلمة من القرآن وتفسير معناها إلا بالرجوع إلى سياق الآية والقرائن واللغة العربية, فآية: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ـ السياق يدل على أن معنى اليدين هي صفة لذات الله لا مثيل لها, ولكن عندما طبقت القاعدة هذه على آية: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ـ رأيت أن السياق يتحدث عن البخل الذي نسبوه لله تعالى ورد الله عليهم, وقرينة: ينفق كيف يشاء ـ فعلمت أن يداه مبسوطتان هنا تعني أنه كريم رزاق وأنها لا تعني الصفة كما في الآية الأولى, فنرجو التوضيح خاصة أن بعض العلماء يقتطعون النص فيقولون: بل يداه مبسوطتان ـ ثم يحكمون على أنها صفة من دون الرجوع إلى السياق والقرائن كما فعلوا ذلك بنصوص أخرى مثل: يا عبدي مرضت ولم تعدني ـ فهنا قالوا إن السياق والقرائن تثبت أن العبد هو الذي يمرض..... فنرجو التوضيح أثابكم الله؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد ذكر هذه الآية في باب الصفات جم غفير من الأئمة الأعلام كالإمام أحمد والبربهاري وأبي سعيد الدارمي وأبي بكر الإسماعيلي وأبي الحسن الأشعري وابن أبي يعلى وابن قدامة وعبد الغني المقدسي وابن عساكر وغيرهم، وكثير من العلماء المتأخرين كصديق حسن خان وحافظ حكمي، وكذلك كثير من الباحثين في أطروحاتهم العلمية كالدكتور عمر سليمان الأشقر والدكتور محمد بن خليفة التميمي والدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس وغيرهم، وقال الطبري في تفسيره: اختلف أهل الجدل في تأويل قوله: بل يداه مبسوطتان ـ فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه، وقال: ذلك بمعنى: يد الله على خلقه، وذلك نعمه عليهم، وقال: إن العرب تقول: لك عندي يد، يعنون بذلك: نعمةٌ، وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة، وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي { سورة ص: 45} وقال آخرون منهم: بل: يده ـ ملكه وقال: معنى قوله: وقالت اليهود يد الله مغلولة ـ ملكه وخزائنه، قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك: هو ملك يمينه، وفلان بيده عُقدة نكاح فلانة، أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً {سورة المجادلة: 12}، وقال آخرون منهم: بل: يد الله ـ صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم، قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده، قالوا: ولو كان معنى اليد، النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصِه آدم بذلك وجه مفهوم، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك، قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق، قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى: اليد ـ من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع، قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن: يد الله ـ في قوله: وقالت اليهود يد الله مغلولة ـ هي نعمته لقيل: بل يده مبسوطة، ولم يقل: بل يداه، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة، وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا { سورة إبراهيم: 34، وسورة النحل: 18} قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين، قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ {سورة العصر: 1، 2} وكقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ {سورة الحجر: 26} وقوله: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا {سورة الفرقان: 55} قال: فلم يُرَدْ بـالإنسان والكافر في هذه الأماكن إنسان بعينه ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس، وكذلك قوله: وَكَانَ الْكَافِرُ معناه: وكان الذين كفروا قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما، قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال: ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم، قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما، قالوا: وغيرُ محال: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس، وما أكثر الدراهم في أيديهم، لأن الواحد يؤدي عن الجميع، قالوا: ففي قول الله تعالى: بل يداه مبسوطتان ـ مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع ـ ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع، النعمة، وصحةِ قول من قال: إن يد الله هي له صفة، قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل... اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين في تعليقه على لمعة الاعتقاد: الواجب في نصوص الكتاب والسنة إبقاء دلالتها على ظاهرها من غير تغيير، لأن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين... ولأن تغييرها عن ظاهرها قول على الله بلا علم وهو حرام.. مثال ذلك قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ {المائدة: 64} فإن ظاهر الآية أن لله يدين حقيقتين فيجب إثبات ذلك له، فإذا قال قائل: المراد بهما القوة، قلنا له: هذا صرف للكلام عن ظاهره فلا يجوز القول به، لأنه قول على الله بلا علم. اهـ.

وهذا لا يتعارض مع دلالة الآية على المعنى الذي أشار إليه السائل، فإن بسط اليد يدل بالمعنى العرفي على سعة الفضل وجزالة العطاء ووفور النعمة، فما بخلقه من نعمة إلا منه سبحانه، وراجع الفتوى رقم: 18775.

ومن أفضل ما يمكن الرجوع إليه لبيان القاعدة المحكمة في مثل هذه الآية: الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومما قال فيها: إذا وصف الله نفسه بصفة أو وصفه بها رسوله أو وصفه بها المؤمنون ـ الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ـ فصَرْفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر ومجاز ينافي الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة وفي معنى بطريق المجاز لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف، وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل ـ الصارف ـ عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصا قاطعا لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وأنه أراد مجازه سواء عينه أو لم يعينه لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل... ونحن نتكلم على صفة من الصفات ونجعل الكلام فيها أنموذجا يحتذى عليه، ونعبر بصفة: اليد ـ وقد قال تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وقال تعالى لإبليس: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي... فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله... وأن يداه مبسوطتان، ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة العطاء، لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها، وتركه يكون ضما لليد إلى العنق صار من الحقائق العرفية، إذا قيل: هو مبسوط اليد، فهم منه يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبخل، كما قال تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط.. فالقائل إن زعم أنه ليس له يد من جنس أيدي المخلوقين: وأن يده ليست جارحة فهذا حق، وإن زعم أنه ليس له يد زائدة على الصفات السبع، فهو مبطل فيحتاج إلى تلك المقامات الأربعة.. فننظر فيما قدمنا:

المقام الأول: أن لفظ: اليدين ـ بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة، لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع كقوله: إن الإنسان لفي خسر ـ ولفظ الجمع في الواحد كقوله: الذين قال لهم الناس إن الناس ـ ولفظ الجمع في الاثنين كقوله: صغت قلوبكما ـ أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد فلا أصل له، لأن هذه الألفاظ عدد وهي نصوص في معناها لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني رجلين، ولا عندي رجلان، ويعني به الجنس، لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس والجنس يحصل بحصول الواحد، فقوله: لما خلقت بيدي ـ لا يجوز أن يراد به القدرة، لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة، لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية... ولست تجد في كلام العرب ولا العجم ـ إن شاء الله تعالى ـ أن فصيحا يقول: فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها، وبهذا الفرق المحقق تتبين مواضع المجاز ومواضع الحقيقة، ويتبين أن الآيات لا تقبل المجاز البتة من جهة نفس اللغة. اهـ.

ويمكن للسائل الكريم أن يرجع إلى الرسالة كاملة لتمام الفائدة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني