الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مشروعية المسح على الجورب القطني

السؤال

هل الجورب القطني وغيره كالخف في حكم المسح؟ فالجورب غالبا لا يمكن تتابع المشي عليه، فهل يطلق اسم الخف عليه؟ وفي بعض كتب الشافعية أنه يشترط أن يكون الخف مانعا لنفوذ الماء، فهل يمكن أن يستنبط هذا الشرط من الكتاب والسنة؟ أرجو من سماحتكم تفصيلا واضحا ودليلا بينا في هذه المسألة حيث لا يبقى فيها شك ولا إشكال ـ بإذن الله تعالى ـ وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فأما المسح على الجوربين فمختلف في جوازه بين أهل العلم، والراجح عندنا جواز المسح عليهما، وانظر الفتوى رقم: 196513.

والجورب وإن لم يسم خفا في اللغة فإنه ما كان على شكل الخف من صوف ونحوه، كما قال الزرقاني فإنه في معناه ومن ثم جاز المسح عليه، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الفرق بين الجوربين وَالنَّعْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوفٍ وَهَذَا مِنْ جُلُودٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جُلُودًا أَوْ قُطْنًا، أَوْ كَتَّانًا، أَوْ صُوفًا كَمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَوَادِ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَيَاضِهِ، وَمَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْجِلْدَ أَبْقَى مِنْ الصُّوفِ فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ، كَمَا لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْجِلْدِ قَوِيًّا، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى، وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا، كَالْحَاجَةِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا سَوَاءٌ، وَمَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ، يَكُونُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهَذَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ، الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ. انتهى.

وأما قولك إن الجورب غالبا لا يمكن تتابع المشي فيه، فهذا إن سلمناه لم يمنع استباحة المسح عند كثير من العلماء، فقد جوز كثير من العلماء المسح على الجوارب وإن كانت رقيقة استدلالا بظاهر الأحاديث، قال النووي: وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبِ وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَهُ وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى مِثْلُهُ مَرْفُوعًا، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ كَالْخِرْقَةِ. انتهى.

وقد رجح هذا القول جمع من المحققين، وعليه فلا إشكال في المسح على ما يلبسه الناس من جوارب، وأما على القول باشتراط إمكان متابعة المشي في الجوربين فلا بد من أن يكون الجوربان صفيقين يمكن ذلك فيهما، وضابط إمكان متابعة المشي قد بينه النووي فقال: وَمَعْنَى ذَلِكَ أن يمكن المشى عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِ النُّزُولِ وَعِنْدَ الْحَطِّ وَالتَّرْحَالِ وَفِي الْحَوَائِجِ الَّتِي يَتَرَدَّدُ فِيهَا فِي الْمَنْزِلِ وَفِي الْمُقِيمِ نَحْوُ ذَلِكَ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ لَابِسِي الْخِفَافِ وَلَا يُشْتَرَطُ إمْكَانُ متابعة المشي فراسخ. انتهى. وعليه، فما كان بهذه المثابة من الجوارب سواء كانت من قطن أو صوف أو غيرها فإنه يمسح عليه وإن كان الجلد أبقى منها فإن هذا لا تأثير له في الحكم ـ كما مر بك في كلام شيخ الإسلام رحمه الله ـ وأما على القول بعدم الاشتراط فالأمر واضح، وأما من اشترط من العلماء كون الخف لا ينفذ الماء منه فوجه قوله هو الاقتصار بالرخصة على ما وردت فيه والخفاف في الغالب لا ينفذ الماء منها ومن ثم أخذ هذا الشرط، قال صاحب كفاية الأخيار من الشافعية وهو يذكر شروط ما يمسح عليه: الْأَمر الثَّالِث: أَن يمْنَع نُفُوذ المَاء، فَإِن لم يمْنَع فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ على الرَّاجِح، لِأَن الْغَالِب فِي الْخفاف كَونهَا تمنع نُفُوذ المَاء فتنصرف النُّصُوص إِلَيْهِ. انتهى.

وقد بين شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ علة امتناع كثير من الفقهاء عن التوسع في الترخيص في باب المسح على الحوائل فقال: فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ، فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ، وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ، وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ، عَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ الحنفية السمحة التي بعث بها. انتهى.

والراجح عدم اعتبار هذا الشرط وأنه لا تأثير لكون الماء ينفذ أو لا ينفذ من الخف، قال شيخ الإسلام: ومن فرق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه: فقد ذكر فرقا طرديا عديم التأثير، ولو قال قائل: يصل الماء إلى الصوف أكثر من الجلد فيكون المسح عليه أولى للصوق الطهور به أكثر: كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية وكلاهما باطل. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني