الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سبب قول مريم عليها السلام: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا

السؤال

ورد في سورة مريم: قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا.
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا .... ومنهم مريم ابنة عمران.
هل قولها هذا عليها السلام يدل على تسخط على قدر الله؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن تمني مريم عليها السلام للموت، ليس لتسخطها القدر، ولكن لخوفها من فتنة الناس بها، وتضررهم الديني، حيث تخشى أن لا يصدقوها، وتمني الموت في مثل هذا جائز.

فقد قال ابن كثير في تفسير قول يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. {يوسف:101}. مقارنا بين الآية، وحديث الصحيحين: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ...

قال رحمه الله: وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به، أما إذا كان فتنة في الدين، فيجوز سؤال الموت، كما قال الله تعالى إخبارا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم، وتهددهم بالقتل قالوا: { ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين } [الأعراف: 126]. وقالت مريم لما أجاءها المخاض، وهو الطلق، إلى جذع النخلة: { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } [مريم: 23]. لما تعلم من أن الناس يقذفونها بالفاحشة؛ لأنها لم تكن ذات زوج، وقد حملت وولدت، فيقول القائل أنى لها هذا؟ ولهذا واجهوها أولا بأن قالوا: { يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } [مريم: 27 ، 28] فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا، وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله، وكان آية عظيمة، ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه. وفي حديث معاذ، الذي رواه الإمام أحمد، والترمذي، في قصة المنام والدعاء الذي فيه: "وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون" .... فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال: اللهم، خذني إليك، فقد سئمتهم، وسئموني. وقال البخاري، رحمه الله، لما وقعت له تلك المحن وجرى له ما جرى مع أمير خراسان: اللهم توفني إليك.....اهـ.

وقال الألوسي: وإنما قالته عليها السلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السلام من الوعد الكريم، استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم، أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها. وروي أنها سمعت نداء: اخرج يا من يُعبد من دون الله تعالى، فحزنت لذلك، وتمنت الموت، وتمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه. نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض، أو فاقة، أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا. ففي صحيح مسلم، وغيره قال صلى الله عليه وسلم: لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني