الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في الذهاب للتجارة عند الأضرحة التي يحتفل ويذبح عندها

السؤال

في الجزائر وخاصة في غربها، تقام عند أضرحة الصالحين ـ والله أعلم، لا نزكي على الله أحدا ـ حفلات سنوية وتذبح المواشي وتصنع الأطعمة ويأتي الناس من كل حدب وصوب ـ من الرجال والنساء ـ بالآلاف لزيارة ضريح الولي الصالح، وفيه اختلاط كبير بين النساء والرجال، والسؤال هو: ما حكم من يذهب إلى هذا المكان من أجل التجارة لا غير، غير معتقد ما يعتقده الآخرون؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن هذه الاحتفالات من الأمور المنكرة في الشرع، فاعتياد الذهاب إلى القبور في وقت معين منهي عنه، لما جاء في الحديث: لا تتخذوا قبري عيدا. أخرجه أحمد، وحسنه ابن القيم، وصححه ابن حجر والألباني.

فضلا عما في تلك الاحتفالات -غالبا- من مظاهر الشرك، والغلو في أصحاب القبور، والاختلاط بين الرجال والنساء، قال ابن تيمية: حتى إن بعض القبور يجتمع عندها في يوم من السنة ويسافر إليها إما في المحرم، أو رجب، أو شعبان، أو ذي الحجة أو غيرها، وبعضها يجتمع عنده في يوم عاشوراء، وبعضها في يوم عرفة، وبعضها في النصف من شعبان، وبعضها في وقت آخر، بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه، ويجتمع عندها فيه، كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى، في أيام معلومة من السنة، أو كما يقصد مصلى المصر يوم العيدين، بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد، ومنها: ما يسافر إليه من الأمصار، في وقت معين أو في وقت غير معين لقصد الدعاء عنده، والعبادة هناك، كما يقصد بيت الله لذلك، وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، إلا أن يكون خلافا حادثا، وإنما ذكرت الوجهين المتقدمين في السفر المجرد لزيارة القبور. فأما إذا كان السفر للعبادة عندها بالدعاء أو الصلاة أو نحو ذلك: فهذا لا ريب فيه، حتى إن بعضهم يسميه الحج، ويقول: نريد الحج إلى قبر فلان وفلان، ومنها: ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع وفي الجملة: هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: لا تتخذوا قبري عيدًا ـ فإن اعتياد قصد المكان المعين، وفي وقت معين، عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع، هو بعينه معنى العيد، ثم ينهى عن دِقِّ ذلك وجله، وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره لما قال: قد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا ـ وذكر ما يفعل عند قبر الحسين، وقد ذكرت فيما تقدم: أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجئ بها السنة، فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين؟ ويدخل في هذا: ما يفعل بمصر، عند قبر نفيسة وغيرها، وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنه قبر علي ـ رضي الله عنه ـ وقبر الحسين، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وقبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي الجواد ببغداد، وعند قبر أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي، وغيرهما، وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي، وكان يفعل نحو ذلك بحران، عند قبر يسمى قبر الأنصاري إلى قبور كثيرة، في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها، كما أنهم بنوا على كثير منها مساجد وبعضها مغصوب، كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم، وهؤلاء الفضلاء من الأئمة، إنما ينبغي محبتهم واتباعهم، وإحياء ما أحيوه من الدين، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، ونحو ذلك، فأما اتخاذ قبورهم أعيادا، فهو مما حرمه الله ورسوله، واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، أو الاجتماع العام عندها في وقت معين، هو اتخاذها عيدا، كما تقدم، ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا، ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة، فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين، الذين أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن في هذه الأمة، وأصل ذلك: إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها، وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب انمحى ذلك كله، فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حراما، كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق، وفتحا لباب الشرك، وإغلاقا لباب الإيمان. اهـ.

وقال: وأما الذبح هناك: فمنهي عنه مطلقا، ذكره أصحابنا وغيرهم، لما روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عقر في الإسلام ـ رواه أحمد وأبو داود، وزاد: قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة ـ قال أحمد في رواية المروزي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا عقر في الإسلام ـ كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورا على قبره، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكره أبو عبد الله أكل لحمه، قال أصحابنا: وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه .اهـ.

والذهاب إلى أماكن تلك الاحتفالات من أجل التجارة فيه محذوران:

المحذور الأول: شهود تلك الأعياد، والأعياد المحرمة لا يجوز للمسلم شهودها، لقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء:140}.

قال القرطبي: فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ـ أي غير الكفر ـ إنكم إذا مثلهم ـ فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: إنكم إذا مثلهم ـ فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. اهـ.

المحذور الثاني: الإعانة على تلك الأعياد، ومن القواعد المقررة في الشريعة أن الإعانة على المحرم لا تجوز، قال ابن تيمية في كلامه عن أعياد الكفار: فإن كان ما يبتاعونه يفعلون به نفس المحرم، مثل صليب، أو شعانين، أو معمودية، أو تبخير، أو ذبح لغير الله، أو صورة ونحو ذلك، فهذا لا ريب في تحريمه، كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا، وبناء الكنيسة لهم، وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس، فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته، لكن كراهة تحريم كمذهب مالك أو كراهة تنزيه؟ والأشبه أنه كراهة تحريم، كسائر النظائر عنده، فإنه لا يُجوّز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها الخمر، ولأن هذه الإعانة تفضي إلى إظهار الدين ـ أي: الدين الباطل ـ وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره وهذا أعظم من إعانة شخص معين. اهـ.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد ـ عيد الحب ـ أو غيره من الأعياد المحرمة بأي شيء من أكل، أو شرب، أو بيع، أو شراء، أو صناعة، أو هدية، أو مراسلة، أو إعلان، أو غير ذلك، لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله ورسوله، والله جل وعلا يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. اهـ.

وذهب بعض العلماء إلى كراهة بيع ما فيه إعانة على أعياد الكفار، جاء في شح الدردير على خليل: وكره لنا بيع الطعام أو غيره كثياب وإجارة الدواب وسفينة وغيرها لعيده ـ أي الكافر ـ وكعيده ما أشبهه من كل ما يعظم به شأنه. اهـ.

وقال ابن حجر في الفتح في شرح حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم ـ ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم، أو هي من ضرورة البشرية؟ ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته، وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث. اهـ.

فالحاصل أن الذهاب إلى مكان هذا العيد وشهوده لمشاركة أهله ما هم فيه أمر محرم، وأما الاتجار لمن يشهدون هذا العيد ما يستعينون به عليه فهو محل خلاف بين العلماء، والأحوط البعد عنه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني