الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سبب اختلاف الألفاظ وزيادة المعاني ونقصها في قصص القرآن

السؤال

إذا كانت الكتب السماوية ليست قول الرسل أو جبريل عليهم صلوات الله وسلامه وإن كانوا هم المبلغين للبشرية إلا أن القول ليس قولهم أصالة، بل ما هم إلا مبلغين كلام رب العالمين للبشر، فإنه تصح نسبة القول لرب العالمين لا للمبلغ، لأن القول ينسب لقائله لا مبلغه، وإذا صح ذلك، فكيف لا يترتب عليه أن الأقوال التي في القرآن المنسوبة إلى بشر أو ملك أو جن ـ خاصة التي يتحدث قائلها العربية وليس المتحدث بلغة وتم ذكر المعنى ـ ليست من قول رب العالمين، ألا ينطبق عليها نفس المعنى أن الله أخبر بما قالوه بالنص حتى يتوفر الصدق التام في كلام رب العالمين بأن يكون المنقول عنهم هو عين ما قالوه، فالإشكال أنه إما نسبة عدم كمال الصدق إلى كلام رب العالمين إن كان هناك فرق في الصيغة ـ وحاشاه سبحانه وتعالى عن قول غير الحق والصدق ـ وإما أن ننسب القرآن ونقول إنه ليس كله كلام رب العالمين، لأن الكلام مطابق لكلامهم بالقياس على المسألة الأولى، فهو ليس كلام رب العالمين، وما خطر لي في رد هذا التساؤل هو أنه لا يوجد شيء في القرآن من قول مخلوق بنصه وصيغته، وإنما هو تعبير عما في باطن هذا المخلوق بصيغة تعبر عما في باطنه أجود من الصيغة التي نطق بها، وتفصح عما في باطنه أكثر مما قاله، لأن الله سبحانه خبير بذات الصدور وأعلم بالعبد من نفسه، فيعلم مقصوده أكثر منه فيصبح القول قول رب العالمين من جهة، وقول المخلوق من جهة، فهو قول رب العالمين من جهة التكلم به بتركيبات لا تشابه ولا تماثل كلام المخلوقين، وهو كلام المخلوق من حيث مقصوده الذي أراد اكتسابه أو يحاسب عليه، فهل هذا الجواب صواب؟ أرجو تقييمه بدقة، وهل من نبذة عن أهم الردود على ذلك؟ فقكم الله إلى ما يحب ويرضى.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأصل كلام الأخ السائل فيه نظر، فالقرآن الذي هو كلام الله تعالى يصح نسبته إلى غيره تعالى، باعتبار النقل والبلاغ، كما نسب إلى جبريل عليه السلام في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ {التكوير: 19ـ 20}.

وكما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ {الحاقة: 40ـ 41}.

وقد سبق لنا إيضاح ذلك في الفتوى رقم: 178673.

وهذا يبين الخلل في قول السائل: فإنه تصح نسبة القول لرب العالمين لا للمبلغ، لأن القول ينسب لقائله لا مبلغه! وكذلك قوله بعد ذلك: إما أن ننسب القرآن ونقول إنه ليس كله كلام رب العالمين، لأن الكلام مطابق لكلامهم، بالقياس على المسألة الأولى!! وأما ما في القرآن من نقل أقوال البشر أو الملائكة أو الجن أو حتى الطير والحشرات كالهدهد والنملة، فلا يعارض صحة نسبة القرآن إلى الله تعالى بأي وجه من الوجوه، فإن ذلك كان على سبيل الحكاية، والمَحْكِيُّ ينسب إلى قائله كما لا يخفى، وفي الوقت ذاته تصح نسبة الحكاية إلى حاكيها!

هذا.. ولا بد من التنبه إلى أن المعتبر في صحة نقل الأقوال وحكايتها هو أداء مضمون الكلام ومعناه، ولا يشترط أن يكون بألفاظ القائل نفسها، ولذلك تنوعت أساليب القرآن وتعددت ألفاظه في حكاية القصة الواحدة ونقل الحدث الواحد، قال الرازي في كتاب: أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل ـ إن قيل: كيف قال الله تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ {الأعراف: 121ـ 126} ثم حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه وسورة الشعراء بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم، وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرة واحدة، فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟ قلنا: الجواب عنه أنهم إنما تكلموا بذك بلغتهم لا باللغة العربية: وحكى الله تعالى ذلك عنهم باللغة العربية مراراً، لحكمة اقتضت التكرار والإعادة.. فمرة حكاه مطابقاً للفظهم في الترجمة رعاية للفظ، وبعد ذلك حكاه بالمعنى جرياً على عادة العرب في التفنن في الكلام والمخالفة بين أساليبه، لئلا يمل إذا تمحض تكراره. اهـ.
وأجاب ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني عن سبب اختلاف الألفاظ وزيادة المعاني ونقصها في بعض قصص القرآن بقوله: أما اختلاف الألفاظ: فلأن المقصود المعاني ... وأما زيادة المعاني ونقصها في بعض دون بعض: فلأن المعاني الواقعة في القصص فرقت في إيرادها، فيذكر بعضها في مكان وبعض آخر في مكان آخر.. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة عن ذلك الفتويين رقم: 57844، ورقم: 116074.

وبهذا يعرف الخطأ في قول السائل: نسبة عدم كمال الصدق إلى كلام رب العالمين إن كان هناك فرق في الصيغة! فليس من شرط صدق الكلام وصحة النقل أن يكون بنفس لفظه، بل يكفي في ذلك مراعاة المعنى ومقصد المتكلم، فإن وافق هذا اللفظ بلاغة القرآن وأسلوبَه البياني فيمكن أن يُحكى كما هو، كما في موافقات عمر ـ رضي الله عنه ـ التي سبق ذكرها في الفتوى رقم: 62984.

قال الدكتور صلاح الخالدي في القرآن ونقض مطاعن الرهبان: وموافقات عمر التي نزلت الآيات مقررة لكلام عمر واقتراحه تدل على فضل ومنزلة وفطنة عمر ـ رضي الله عنه ـ بحيث ينزل الله الآية في اعتماد كلامه والأخذ به. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني