الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مسألة هل الأفضل في الدعاء التخصيص أم التعميم

السؤال

أي الدعاء أفضل: الدعاء بالتفصيل أم الدعاء بالاختصار - مثال التفصيل: اللهم اغفر لأمي وأبي وأخي فلان وأختي ..., ومثال الاختصار: اللهم اغفر لجميع عائلتي -؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلم نطلع على تفضيل مطلق لإحدى الطريقتين في الدعاء، لكنا نقول: إن للنبيّ عليه الصلاة والسلام ثلاث طرائق في كيفية الدعاء من حيث التفصيل والاختصار لمن يدعو له أو عليه, فتارة يفصل بذكر المدعو- إما بالاسم أو الوصف - وأخرى يختصر - يعمم ويجمل - وثالثة يجمع بين الوجهين كما يتضح لك - أخي السائل - مما يأتي، وله عليه الصلاة والسلام نظير ذلك فيما يدعو به من الخير, أو يتعوذ به من الشر.
وميزة الاختصار ـ بالكلمات التي تفيد العموم كـ(جميع عائلتي) ـ أنه يدخل فيه الخاص المفصل (أمي وأبي .. ) وغيرهم ممن لم ينصّ عليهم، بل قد لا يحيط الداعي بالتفصيل بكل من يرغب في الدعاء لهم فيحرم بعضهم من دعائه، ثم إن الاختصار أعون للدوام, فقد يكسل الإنسان عن التفاصيل كل مرة, وأحب العمل إلى الله أدومه, وكان عمل النّبيّ ـ صَلَى اللّه عليه وسَلّم ـ ديمة، ولعل الاختصار هو الأليق في الجملة في مقام الخطاب, وتعظيم الملك ـ جل في علاه ـ ما لم تكن هناك خصوصية لبعض أفراد العام تقتضي ذكره بالتفصيل, كما فعل النّبيّ صَلَى اللّه عليه وسَلّم في بعض الأحوال، كما سيتضح للسائل من خلال عرض النماذج النبوية في الدعاء.

فقد روى أحمد في المسند ـ بإسناده الصحيح ـ عَنْ عَائِشَةَ قالت: كَانَ رسُول اللّه ـ صَلَى اللّه عليه وسَلّم ـ يُعْجِبُهُ الْجَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ. فمن ذلك ـ كما قرره الحافظ ابن رجب في فتح الباري ـ ما جاء في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ, وَمِيكَائِيلَ, السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". فهذا توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحصيل غرض السائل بألفاظ العموم.
وهكذا كان غالب دعاء النّبيّ صَلَى اللّه عليه وسَلّم الاختصار في من يدعو لهم أو عليهم من خلال الكلمات التي تفيد التعميم في اللغة العربية, أو الجمع بين الاختصار والتفصيل حسب المقتضى، فكان الأصل في دعائه عليه السلام التعميم, ولذلك اتفق الفقهاء على استحباب التعميم في الدعاء، وهذا لا ينافي أن يجمع الداعي بين التعميم - الاختصار - وبين التخصيص - التفصيل ـ لخصوصية معينة فيمن خصهم بالذكر, كما في دعاء نوح وإبراهيم ـ عليهما السلام ـ كما في أواخر سورتيهما، فخصا الوالدين بالذكر لعظيم قدرهما؛ رغم دخولهما فيما بعدهما من عموم المؤمنين.
وهكذا كان دأب النّبيّ صَلَى اللّه عليه وسَلّم ففي صحيح البخاري أن قريشًا لما وضعت أحشاء الجمل على رأس رسُول اللّه صَلَى اللّه عليه وسَلّم وهو ساجد عند الكعبة فقال: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ البَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ». فعمم وخصص ؛ عمم لاشتراك قريش جميعها في الوزر, ثم خصص لأنهم أئمة الكفر وقادته.
وكان يدعو عليه الصلاة والسلام للمستضعفين من المؤمنين بمكة, ويسمي ثلاثة منهم لتواعدهم على الهروب رجاء نجاتهم, ففي البخاري أيضًا عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ .الحديث
ثم اشتهر بين السلف تسمية المدعو لهم بأسمائهم وأسماء آبائهم تفصيلًا في الدعاء لكبير مقامهم عند الداعي, ولحرصهم على فضل الدعاء للغير بظهر الغيب.
ففي مصنف ابن أبي شيبة: قال أبو الدرداء: "إني لأدعو لسبعين من إخواني وأنا ساجد‎ "
وقال المرادوي في الإنصاف: "كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْعُو لِجَمَاعَةٍ فِي الصَّلَاةِ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - "
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي في ترجمة يحيى بن سعيد القطان: أنه كان يدعو لألف إنسان.
كما نحب في النهاية أن ننبه السائل إلى بعض الآداب التي تتعلق بالدعاء لغيره فمن ذلك:
ـ ألا يحجر دعاءه على من سماهم كأن يقول :"اللهم ارحمني وفلانا ولا ترحم غيرنا"
ـ إذا دعا لنفسه مع غيره قدم نفسه فيقول :"اللهم اغفر لي ولوالدي"
ـ أن الأصل جواز الدعاء للمعين باسمه, ولكن اختلف الفقهاء في ذلك إذا كان الدعاء في الصلاة:
وللدعاء حينئذ حالتان: فإما أن يكون بضمير الخطاب كـ(غفر الله لك يا فلان) أو بغيره كـ (اللهم اغفر لفلان وفلان): فإن كان بضمير الخطاب فالجمهور على المنع, وأنه مبطل للصلاة, وجوز المالكية ذلك ما لم يقصد خطاب الشخص بعينه.
وإن كان بغير ضمير الخطاب كـ (اللهم اغفر لفلان وفلان ...) فالأصح عند الحنابلة الجواز, وهو مذهب الجمهور، ولأحمد رواية بالكراهة, وهناك قولان بالتفصيل في ذلك؛ القول الأول ـ التفصيل بين الفرض والنافلة كما هو رواية عن أحمد, وقدمها المرداوي في الإنصاف فيشرع في الثاني دون الأول، والقول الثاني: التفصيل بين الأدعية الواردة في الكتاب والسنة, وبين ما يشبه كلام الناس - كما هو مذهب الحنفية - فيشرع في الأول دون الآخر - نسأل الله أن يتقبل دعاءنا ودعاءكم إنه قريب مجيب -.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني