الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بيان جواز وضوابط ضرب أمثلة دنيوية لتقريب الأمور الأخروية

السؤال

هل يجوز استخدام الأمثلة الدنيوية في تقريب الفهم لأمور أخروية، وعلاقة العبد مع الله تعالى ؟
مثل: تشبيه الإمام والمصلين خلفه ومسؤوليتهم أمام الله، بشركة حكومية فيها مدير عام، وتحته موظفون، ومسؤوليتهم أمام ولي الأمر.
مثال آخر: تشبيه من يتغيب عن صلاة الفجر ويؤخرها إلى ما بعد الشروق، بموظف دعاه المدير إلى اجتماع في ساعة معينة، فجاءه بعد عدة ساعات. فكيف يكون موقفه؟
هل في هذه الأمثلة شيء من التشبيه والتمثيل والعياذ بالله ؟ وهل هي نفس ما يستعمله ابن تيمية، وابن القيم عليهما رحمة الله في كتبهما ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فيجوز استخدام الأمثال الدنيوية لتقريب الأمور الأخروية لفهم العبد، وقد صنف ابن القيم في ذلك كتاباً يشرح فيه أمثال القرآن.

قال في مطلعه: وقع في القرآن أمثال، وإن أمثال القرآن لا يعقلها إلا العالمون، وإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر؛ كقوله تعالى في حق المنافقين: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ....."

وقال ابن حجر تعليقاً على حديث تشبيه المؤمن بالنخلة: وَفِيهِ ضَرْبٌ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ لِزِيَادَةِ الْإِفْهَامِ، وَتَصْوِيرُ الْمَعَانِي لِتَرْسَخَ فِي الذِّهْنِ، وَلِتَحْدِيدِ الْفِكْرِ فِي النَّظَرِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ ..."انتهى.

وقد استعمل الصحابة فمن بعدهم من الأئمة أمثلة دنيوية لتقريب الأمور الأخروية. قال أبو هريرة وسئل عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه قال: ذاك التقوى. نقلاً عن جامع العلوم والحكم لابن رجب.

وقد سبق لنا بيان جواز ضرب الأمثال بالفتوى رقم: 116065

ولا نرى بأساً بما جاء في المثالين، مع التأكيد على مضمون عبارة ابن حجر -رحمه الله-: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الْجَمَادَاتِ وَلَا يُعَادِلُهُ.

ولا يدخل هذا في التشبيه، ولا التمثيل، فالتشبيه والتمثيل أن يمثل الله بخلقه بقياس مساو، وأما الذي معنا فهو قياس الأولى، وهو جائز، وقد بينهما الله في كتابه فقال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ.." النحل.

فمنع التمثيل، ثم مثّلَ بقياس الأولى.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم القياس تارة يعتبر فيه القدر المشترك من غير اعتبار الأولوية، وتارة يعتبر فيه الأولوية فيؤلف على وجه قياس الأولى، وهو إن كان قد يجعل نوعا من قياس الشمول والتمثيل، فله خاصة يمتاز بها عن سائر الأنواع وهو أن يكون الحكم المطلوب أولى بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه، وهذا النمط هو الذي كان السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية، وهو الذي جاء به القرآن، وذلك أن الله سبحانه لا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قياس الشمول الذي تستوي أفراده، ولا تحت قياس التمثيل الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع، فإن الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء لا في نفسه المذكورة بأسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولكن يسلك في شأنه قياس الأولى كما قال: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى . فإنه من المعلوم أن كل كمال ونعت ممدوح لنفسه لا نقص فيه يكون لبعض الموجودات المخلوقة المحدثة، فالرب الخالق الصمد، القيوم، القديم، الواجب الوجود بنفسه هو أولى به، وكل نقص وعيب يجب أن ينزه عنه بعض المخلوقات المحدثة الممكنة فالرب القدوس، السلام، القديم الواجب وجوده بنفسه هو أولى بأن ينزه عنه. انتهى من شرح الأصفهانية.

وراجع مزيد كلام له -رحمه الله- في مطلع التدمرية.

ونكتفي بمثل لشيخ الإسلام، وآخر لابن القيم.

فأما الأول فهو للمحاسبي نقله عنه ابن تيمية -رحمه الله- في الحموية مستدلاً به فقال: ولو اجتمع القوم في أسفل، وناظر إليهم في العلو، فقال: إني لم أزل أراكم، وأعلم مناجاتكم لكان صادقًا ـ ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق. انتهى.

وأما ابن القيم -رحمه الله -فقال: وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:.... ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تخاطب الملوك، ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى. فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به. انتهى من بدائع الفوائد.

فما ذكرته، لا يبعد عن طريقهما في الأمثال، مع مراعاة التحري في ذلك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني