الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مقتضيات صحة الإيمان بالله والصورة الكلية للإيمان

السؤال

هناك من النصارى من يؤمنون بالله الخالق الوحيد للكون، وينكرون التثليث، ويؤمنون بيوم القيامة، وحساب الخلائق؛ لأن يوم القيامة والبعث في الإنجيل عندهم، ولكنهم يظلون كفارًا، وهذا متفق عليه، لكن لو قلنا: إنهم لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر ألن يكون هذا كذبًا؟ فهناك من يقول: إن جميع النصارى لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، وهذا في رأيي غير صحيح؛ لأن منهم من يؤمن بالله، واليوم الآخر، وعيسى عليه السلام، والملائكة، والجنة والنار.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمنشأ إشكال السائل في إدراك الحقيقة الشرعية للإيمان، فليس مجرد الإقرار بتفرد الله تعالى بخلق الكون يدخل صاحبه في مسمى الإيمان شرعًا، وإلا فقد أقر بذلك المشركون، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61] وقال سبحانه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89] ومع هذا فلا يصح وصفهم بالإيمان، وليسوا مؤمنين بالله تعالى جزمًا وقطعًا؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] قال الشنقيطي في أضواء البيان: قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعامر الشعبي، وأكثر المفسرين: إن معنى هذه الآية أن أكثر الناس، وهم الكفار، ما كانوا يؤمنون بالله بتوحيدهم له في ربوبيته، إلا وهم مشركون به غيره في عبادته، فالمراد بإيمانهم اعترافهم بأنه ربهم الذي هو خالقهم، ومدبر شؤونهم، والمراد بشركهم عبادتهم غيره معه، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدًّا، كقوله: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} ـ وذكر عدة آيات في هذا المعنى ـ ثم قال : ـ ومع هذا فإنهم قالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب} وهذه الآيات القرآنية تدل على أن توحيد الربوبية لا ينقذ من الكفر إلا إذا كان معه توحيد العبادة، أي عبادة الله وحده لا شريك له، ويدل لذلك قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. اهـ.

وقال ابن الجوزي في زاد المسير: إن قيل: كيف وصف المشرك بالإِيمان؟ فالجواب: أنه ليس المراد به حقيقة الإِيمان، وإِنما المعنى: أن أكثرهم مع إِظهارهم الإيمان بألسنتهم، مشركون. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: لو أقر الرجل بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء ـ لم يكن موحدًا، بل ولا مؤمنًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له. اهـ.

ومن الأمثلة المشهورة في هذا الموضوع: أمية بن أبي الصلت، الشاعر الجاهلي المعروف، الذي مات كافرًا مع إقراره وتصديقه بالوحدانية والبعث! قال المناوي في فيض القدير: من شعراء الجاهلية، مبرهن، غواص على المعاني، معتن بالحقائق، متعبد في الجاهلية، يلبس المسوح، ويطمع في النبوة، ويؤمن بالبعث، وهو أول من كتب: باسمك اللهم، وزعم الكلاباذي أنه كان يهوديًا، ويقال: إنه دخل في النصرانية، وأكثر في شعره من ذكر التوحيد، وأحوال القيامة، والزهد، والرقائق، والحكم، والمواعظ، والأمثال. اهـ.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.

وروى مسلم عن الشريد بن سويد قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتًا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتًا، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت، وقال: فلقد كاد يسلم في شعره.

قال النووي: مقصود الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية، واستزاد من إنشاده؛ لما فيه من الإقرار بالوحدانية، والبعث. اهـ.

وقال ابن حجر في فتح الباري: روى ابن مردويه بإسناد قوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال في قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها .. } قال: نزلت في أمية بن أبي الصلت.

وكذلك الإيمان باليوم الآخر لا يصح أن يوصف به شرعًا إلا من يؤمن بالله وحده، ويشهد أن لا إله إلا هو، فإن هذا هو أصل الأصول، قال الشيخ ابن باز بعد أن ذكر أركان الإيمان: إذا ذكر الإيمان بالله دخل فيه بقية الأشياء التي ذكرها في الآيات الأخرى، كالإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، فمن هذا قول الله جل وعلا: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} فاقتصر على الإيمان بالله، ورسوله، والكتاب المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، والكتاب المنزل من قبل، ولم يذكر الأصول الأخرى؛ لأنها داخلة في الإيمان بالله. اهـ.

وقال الدكتور عبد الرحمن عبد الخالق في الحد الفاصل بين الإيمان والكفر: حقيقة الإيمان تدور حول الإيمان بذات الله وصفاته الكريمة، وكل مسائل الإيمان وقضاياه تلتقي بهذه الحقيقة الأولى ... وما الإيمان بالملائكة إلا فرع عن الإيمان بالله؛ فالملائكة هم جنده، وكذلك الرسل الإيمان بهم فرع عن الإيمان به؛ لأنهم رسله، والقائمون بدعوته، وكذلك الشأن في كتبه، فهي قانونه، وتشريعه، وكلامه، وكذلك اليوم الآخر، فهو اليوم الذي ضربه سبحانه وتعالى موعداً لخلقه من الإنس والجن لفصل القضاء بينهم، فالإيمان باليوم الآخر فرع عن الإيمان بالله، وكذلك التكذيب بهذا اليوم كفر بالله ... وبهذا تتضح الصورة الكلية للإيمان، وأنه ليس أجزاء متفرقة مبعثرة، نستطيع أن نأخذ منها ما شئنا، ونترك ما شئنا، ونبقى بعد ذلك مؤمنين، كلا، إن قضية الإيمان لا تتجزأ، ومسائله تنبع جميعها من الإيمان بالله الواحد سبحانه وتعالى؛ فلذلك كان الاعتراض، أو الرد، أو التكذيب لمسألة من مسائله، وقضية من قضاياه كفرًا بالأصل الأصيل، وهو (لا إله إلا الله)، ونقضًا لها، فالمكذب بعذاب القبر مثلًا .. هو في حقيقة أمره مكذب بقدرة الله عز وجل، ولا يفيده إيمانه السابق. اهـ.

ثم إن الإيمان باليوم الآخر لا يصح شرعًا إلا على النحو الثابت في الوحي المعصوم، وأما مجرد التصديق بالأصل الكلي فلا يكفي؛ ولذلك كان أهل الكتاب غير مؤمنين باليوم الآخر على الحقيقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: الأكل والشرب في الجنة ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب، كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك إن أهل الجنة لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين: إما كافر، وإما منافق: أما الكافر فإن اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب، والنكاح في الجنة، يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة، والأرواح الطيبة، مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح، ونعيمها وعذابها. وأما طوائف من الكفار، وغيرهم من الصابئة، والفلاسفة، ومن وافقهم، فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط، وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح؛ ولا الأجساد. اهـ.

ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: سألت أبي: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا {الكهف:103}، هم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى؛ أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب ... اهـ.
ويمكننا أن نصنف المكذبين باليوم الآخر إلى ثلاثة أصناف:
ـ الأول: الملاحدة الذين أنكروا وجود الخالق.
ـ الثاني: الذين يعترفون بوجود الخالق، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور.
ـ الثالث: الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع السماوية، وراجع في بيان ذلك الفتوى رقم: 182693، وراجع في حقيقة الإيمان الفتوى رقم: 12517.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني