الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم بيع الأب بعض أملاكه لأحد أبنائه دون الآخرين

السؤال

أنا أصغر أخوتي، ولي ثلاث بنات، وأخواتي أكبر مني، ووالدي بلغ أكثر من سبعين عاما، وكان مبذرا للمال ولا يعرف قيمته، وعندما كبرنا ـ أنا وأخواتي الثانية والثالثة ـ واحتجنا للمال لم نجده وكان والدي محملا بالديون الكبيرة، ولم يستفد من ذلك المال سوى أختي الكبيرة، وبفضل الله استطعت أن أسدد جميع ديون والدي بمساعدة أخواتي ماعدا الكبيرة، واستطعت تجهيز أختي الثانية حتى تم زواجها وجمع ما بقي من هنا وهناك ووضع مبلغ من المال في البنك لتكاليف زواج أختي الثالثة، وكان قد بقي أطيان زراعية مع والدي بعد الأطيان الكثيرة التي أضاعها وباعها، فاتفقنا أنا ـ وأخواتي الثانية والثالثة وأخي لأمي ـ أن يبيع والدي هذه الأطيان التي بقيت لي لتأمين مستقبلي ولضمان عدم ضياعها ولأنني أصغر أولاده وأحتاج إلى مال كثير لأبدأ حياتي وأتزوج، ورضي والدي بذلك ووافق، ووافقت أختاي الثانية والثالثة ووقع شهود على هذا البيع، ولم نعرض هذا الأمر على أختنا الكبيرة لعلمنا أنها سوف ترفض ذلك مع العلم أنها أكثر من ستفاد من مال والدنا، وأسئلتي هي:
1 ـ هل فى هذا الأمر ظلم لأختي الثانية والثالثة؟ وما الحكم إذا رجعتا عن قبولهما لهذا البيع؟.
2 ـ هل أيضا فيه ظلم لأختي الكبيرة مع أنها تزوجت منذ زمن بعيد وأحوالها مستقرة وهي أكثر من تنعم بمال والدي؟.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن كان بيع والدك الأطيان لك بيعا حقيقيا لا محاباة فيه فهو جائز بلا إشكال ولا يشترط إذن بقية الأبناء، وأما إن كان بيعا صوريا أو بيعا فيه محاباة، فهو في الحقيقة نوع من الهبة، والهبة يجب فيها العدل بين الأبناء، جاء في كشاف القناع: ويجب على الأب، وعلى الأم وعلى غيرهما من سائر الأقارب التعديل بين من يرث بقرابة من ولد وغيره، كأب وأم وأخ وابنه وعم وابنه في عطيتهم، لحديث جابر قال: قالت امرأة بشير لبشير أعط ابني غلاما وأشهد لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، قال: له إخوة؟ قال: نعم، قال: كلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا قال: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق. رواه أحمد ومسلم وأبو داود. ورواه أحمد من حديث النعمان بن بشير، وقال فيه: لا تشهدني على جور، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم. وفي لفظ لمسلم: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي في تلك الصدقة. وللبخاري مثله لكن ذكره بلفظ العطية فأمر بالعدل بينهم وسمى تخصيص أحدهم دون الباقين جورا والجور حرام فدل على أن أمره بالعدل للوجوب. اهـ

وإذا رضيت أخواتك بتخصيصك بالهبة بطيب نفس منهن، فليس في ذلك ظلم لهن، جاء في الإقناع وشرحه: وله ـ أي: لمن ذكر من الأب والأم وغيرهما ـ التخصيص لبعض أقاربه الذين يرثونه بإذن الباقي منهم، لأن العلة في تحريم التخصيص كونه يورث العداوة وقطيعة الرحم، وهي منتفية مع الإذن. اهـ.

ولا حق لهن في الرجوع عن الإذن بعد ذلك، وأما ما ذكرته بقولك: هل أيضا فيه ظلم لأختي الكبيرة مع أنها تزوجت منذ زمن بعيد وأحوالها مستقرة، وهي أكثر من تنعم بمال والدي ـ فهذا لا يبيح تخصيصك بالهبة دونها، فالذي ينبغي ألا تأخذ هذه الأطيان بالهبة إلا بإذن أختك الكبرى، أو تعطيها نصيبها من الأطيان، بقدر إرثها، لأن التعديل في الهبة يكون بقدر الإرث، جاء في كشاف القناع: والتعديل الواجب أن يعطيهم بقدر إرثهم منه اقتداء بقسمة الله تعالى، وقياسا لحالة الحياة على حال الموت، قال عطاء: فما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى. اهـ.

إلا إن كان أبوك قد خصها بعطية، فيجوز أن يخصك بما يحصل به العدل بينكما، جاء في كشاف القناع: فإن خص بعضهم بالعطية أو فضله في الإعطاء بلا إذن الباقي، أثم، لما تقدم وعليه الرجوع فيما خص أو فضل به حيث أمكن أو إعطاء الآخر ولو في مرض الموت المخوف حتى يستووا بمن خصه أو فضله. اهـ.

على أن بعض العلماء يرى جواز تخصيص الابن البار بالعطاء، فعلى قولهم فقد يسوغ لأبيك تخصيصك بالعطاء لما قضيته من دينه، ولما قمت به لأخواتك، جاء في كشاف القناع: ولا فرق في امتناع التخصيص والتفضيل بين كون البعض ذا حاجة أو زمانة أو عمى أو عيال أو صلاح أو علم أو لا، ولا بين كون البعض الآخر فاسقا، أو مبتدعا، أو مبذرا أو لا، وهو ظاهر كلام الأصحاب، ونص عليه في رواية يوسف بن موسى في الرجل له الولد البار الصالح وآخر غير بار لا ينيل البار دون الآخر، وقيل إن أعطاه لمعنى فيه من حاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو لاشتغاله بالعلم ونحوه، كصلاحه أو منع بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يعصي الله بما يأخذه ونحوه جاز التخصيص والتفضيل بالأولى، اختاره الموفق وغيره استدلالا بتخصيص الصديق عائشة ـ رضي الله عنهما ـ وليس إلا لامتيازها بالفضل، ولنا عموم الأمر بالتسوية، وفعل الصديق يحتمل أنه نحل معها غيرها، أو أنه نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها فأدركه المرض ونحوه. اهـ.

وقال الشيخ القاضي فيصل آل مبارك الحنبلي في تطريز رياض الصالحين: أما لو فضل ذا الحاجة أو الطاعة أو البار به على الغني، أو العاصي، أو العاق، فلا كراهة، وإنما كره عند عدم العذر لما فيه من إيحاش المفضل عليه، وربما كان سببًا لعقوقه. اهـ.

وانظر للفائدة الفتوى رقم: 190481.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 145577.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني