الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شرح حديث: ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها

السؤال

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الإبل الضالة: المكتومة، غرامتها، ومثلها معها.
هل تطبيق هذا الحديث يكون عاما على جميع الممتلكات، أم إنه خاص في الإبل فقط؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أخرج أبو داود في سننه عن عمرو بن مسلم، عن عِكرمة أحسبه عن أبي هريرة، أن النبىَّ - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ضالَّةُ الإبلِ المكْتومَةُ غَرامَتُها ومِثْلُها مَعَها.

وقال المنذري: لم يجزم عكرمة - وهو ابن خالد المخزومي - بسماعه من أبي هريرة، فهو مرسل .اهـ. وصححه الألباني.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار، فقال: «ما أخذ في أكمامه فاحتمل، فثمنه ومثله معه، وما كان من الجران، ففيه القطع إذا بلغ ذلك ثمن المِجَنّ، وإن أكل ولم يأخذ، فليس عليه» قال: الشاة الحريسة منهن يا رسول الله؟ قال: «ثمنها ومثله معه والنكال، وما كان في المراح، ففيه القطع، إذا كان ما يأخذ من ذلك ثمن المجن» .أخرجه النسائي وابن ماجه - واللفظ له - وأحمد، وحسنه الألباني.

والقول بمقتضى هذين الحديث من مضاعفة الغرامة، من مفردات الحنابلة عن بقية أصحاب المذاهب، والمشهور من مذهب الحنابلة أنه مقصور على الثمر والكَثَر-أي جمّار النخل- والماشية، وذهب بعض الحنابلة إلى أن الحكم عام في كل مسروق من غير حرز.

جاء في المغني لابن قدامة: وإن سرق من الثمر المعلق، فعليه غرامة مثليه. وبه قال إسحاق؛ للخبر المذكور. وقال أحمد: لا أعلم سببا يدفعه. وقال أكثر الفقهاء: لا يجب فيه أكثر من مثله.

قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه. واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذا الخبر، بأنه كان حين كانت العقوبة في الأموال، ثم نسخ ذلك.

ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حجة لا تجوز مخالفته، إلا بمعارضة مثله أو أقوى منه، وهذا الذي اعتذر به هذا القائل دعوى للنسخ بالاحتمال من غير دليل عليه، وهو فاسد بالإجماع، ثم هو فاسد من وجه آخر؛ لقوله: " ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع ". فقد بين وجوب القطع مع إيجاب غرامة مثليه، وهذا يبطل ما قاله. وقد احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين انتحر غلمانه ناقة رجل من مزينة، مثلي قيمتها. وروى الأثرم الحديثين في " سننه "

قال أصحابنا: وفي الماشية تسرق من المرعى، من غير أن تكون محرزة، مِثْلا قيمتها؛ للحديث، وهو ما جاء في سياق حديث عمرو بن شعيب، «أن السائل قال: الشاة الحريسة منهن يا نبي الله؟ قال: ثمنها ومثله معه، والفكاك، وما كان في المراح، ففيه القطع إذا كان ما يأخذه من ذلك ثمن المجن» . وهذا لفظ رواية ابن ماجه. وما عدا هذين لا يغرم بأكثر من قيمته، أو مثله إن كان مثليا. هذا قول أصحابنا وغيرهم، إلا أبا بكر. فإنه ذهب إلى إيجاب غرامة المسروق من غير حرز بمثليه، قياسا على الثمر المعلق، وحريسة الجبل، واستدلالا بحديث حاطب.

ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته بدليل المتلف، والمغصوب، والمنتهب، والمختلس، وسائر ما تجب غرامته، خولف في هذين الموضعين للأثر، ففيما عداه يبقى على الأصل. اهـ.

وفي الروض المربع: (ومن سرق شيئا من غير حرز، ثمرا كان أو كثرا) ... (أو غيرهما) من جمار أو غيره (أضعفت عليه القيمة) أي ضمنه بعوضه مرتين. قاله القاضي، واختاره الزركشي، وقدم في التنقيح: أن التضعيف خاص بالثمر، والطلع والجمار، والماشية، وقطع به في المنتهى وغيره؛ لأن التضعيف ورد في هذه الأشياء على خلاف القياس، فلا يتجاوز به محل النص. اهـ.

ورجح ابن عثيمين أن الحكم عام في كل مسروق من غير حرز، فقال: وكلام المؤلف - يعني الحجاوي- أقرب؛ لما في ذلك من الردع والزجر؛ ولأنه سقطت عنه العقوبة مراعاة لحاله، ولمصلحته. اهـ.

وذكر بعض العلماء قاعدة فقهية تتعلق بهذا الحديث وهي: أن من سقطت عنه العقوبة بإتلاف نفس، أو طرف مع قيام المقتضي له، لمانع، فإنه يتضاعف عليه الغرم.

جاء في القواعد لابن رجب: (القاعدة الأربعون بعد المائة): من سقطت عنه العقوبة بإتلاف نفس، أو طرف مع قيام المقتضي له، لمانع، فإنه يتضاعف عليه الغرم، ويتخرج على ذلك مسائل:

منها: من سرق من غير حرز، فإنه يتضاعف عليه الغرم، نص عليه، وقيل يختص ذلك بالثمر والكثر.

ومنها: الضالة المكتومة، يضمن بقيمتها مرتين، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، معللا بأن التضعيف في الضمان هو لدرء القطع، وهذا متوجه على أصله في قطع جاحد العارية.

ومنها: لو قلع الأعور عين الصحيح، فإنه لا يقتص منه، وتلزمه الدية كاملة، نص عليه.

ومنها: الصغير إذا قتل عمدا، وقلنا إن له عمدا صحيحا، ضوعف عليه الدية في ماله.

ومنها: السرقة عام المجاعة، قال القاضي في خلافه: يتضاعف الغرم فيها من غير قطع على قول أحمد; لأنه احتج في رواية الأثرم بحديث عمر في رقيق حاطب. ومنها: السرقة من الغنيمة، إذا قلنا هي كالغلول، وإن الغال يحرم سهمه منها على رواية، فيجتمع عليه غرم ما سرقه مع حرمان سهمه المستحق منها، وقد يكون قدر السرقة وأقل وأكثر. وليس من هذه القاعدة تغليظ الدية بقتل ذي الرحم عمدا; لأن القصاص فيه قد يكون واجبا في غير الابن، وإنما هو لزيادة حرمة الجناية فهو كالتضعيف بالقتل في الحرم، والإحرام. اهـ.

وقال ابن عثيمين في منظومة أصول الفقه وقواعده:

وضاعف الغرامة على من ثبتت عقوبة عليه ثم سقطت.

لمانع كسارق من غير ما محرِّز ومن لضال كتما.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني