الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى

السؤال

قال تعالى: وَإنْ تَجْهَر بالْقَوْل فَإنَّهُ يَعْلَم السّرّ وَأَخْفَى.
قرأت في كتب إعراب القرآن أن جملة: فَإنَّهُ يَعْلَم السّرّ وَأَخْفَى. جواب الشرط. إذن يصبح المعنى: وَإنْ لم تَجْهَر بالْقَوْل فَإنَّهُ لا يَعْلَم السّرّ وَأَخْفَى. وحاشاه تعالى.
ولكن هناك من قال إن الفاء هنا جوابية، تعليلية، وهذه الجملة تعليل لجملة الشرط المحذوفة.
أفيدونا جزاكم الله خيرا فقد أشكل علي الأمر.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما ذكرت من أن المعنى يصبح: (وإن لم تجهر بالقول فإنه لا يعلم السر وأخفى) غير صحيح؛ فإنه علق الشرط وهو قوله: (إن تجهر) علقه بعلمه بالسر، أي إن كان سبحانه يعلم السر وأخفى منه، فأحرى أن يعلم الجهر.

قال أبو حيان رحمه الله في تفسيره البحر المحيط: وَلَمَّا كَانَ خِطَابُ النَّاسِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْجَهْرِ بِالْكَلَامِ، جَاءَ الشَّرْطُ بِالْجَهْرِ، وَعَلَّقَ عَلَى الْجَهْرِ عِلْمَهُ بِالسِّرِّ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالسِّرِّ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِالْجَهْرِ، أَيْ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ السِّرَّ فَأَحْرَى أَنْ يَعْلَمَ الْجَهْرَ، وَالسِّرُّ مُقَابِلٌ لِلْجَهْرِ كَمَا قَالَ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ. انتهى.
فواضح أن الشرط قصد به تحقيق علم الله بالجهر؛ لأنه يعلم السر وأخفى.

قال الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير في قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. {طه:7}: أَصْلُ النَّظْمِ: وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ. فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ، مَوْقِعُ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ جُمْلَةِ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى، وَجُمْلَةُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَصِيغَ النَّظْمُ فِي قَالَبِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ حُصُولِهِ عَلَى طَرِيقَةِ مَا يُسَمَّى بِالْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، وَهُوَ سَوْقُ الْخَبَرِ فِي صِيغَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُقُوعِهِ تَحْقِيقًا لَهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا الْقَائِلُ بِالْقَوْلِ لِإِسْمَاعِ مُخَاطِبَهُ، أَيْ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ بِأَسَالِيبَ كَثِيرَةٍ. وَذَلِكَ فِي كُلِّ شَرْطٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْلِيقُ بَلْ يُقْصَدُ التَّحْقِيقُ. انتهى.

وأما ما ذكرته من أن قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. {طه:7}. هو جواب الشرط، فالراجح خلافه، بل هو متعلق بجواب الشرط المحذوف.

قال الثعالبي في تفسيره: قال ابنُ هِشَام: قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أيْ: فاعلم أَنه غَنِيٌّ عن جهرك، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى، فالجوابُ مَحذُوفٌ. انتهى.
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره: وَجَوَابُ شَرْطِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ. مَحْذُوفٌ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا تَشُقَّ عَلَى نَفْسِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، أَيْ فَلَا مَزِيَّةَ لِلْجَهْرِ بِهِ. انتهى.
وقال الألوسي في روح المعاني: قوله تعالى: { فَإِنَّهُ } قائم مقام جواب الشرط، وليس الجواب في الحقيقة؛ لأن علمه تعالى السر وأخفى ثابت قبل الجهر بالقول وبعده، وبدونه. والأصل عند البعض: وإن يجهر بالقول فاعلم أن الله تعالى يعلمه، فإنه يعلم السر وأخفى فضلاً عنه. وعند الجماعة وإن تجهر فاعلم أن الله سبحانه غني عن جهرك فإنه الخ. انتهى.
وتتميما للفائدة فقد ذكر العلامة الطاهر بن عاشور الحكمة من ذكر الشرط بحالة الجهر دون حالة السر فقال: وَأَحْسَبُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ خُصُوصِيَّةً بِهَذَا السِّيَاقِ، اقْتَضَاهَا اجْتِهَادُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَوْرِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَاف: 205]. فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا نَسَخَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحجر: 94] ، وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاسْتِوَاءِ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ فِي الدُّعَاءِ، وَإِبْطَالٌ لِتَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْجَهْرَ أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ مِنَ السِّرِّ. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني