الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجد العبد في صحيفته أحاديث النفس التي نسيها

السؤال

هل الأشياء التي أفكر بها أجدها في صحيفتي يوم القيامة، وأتذكرها - لكن لا يحاسبني الله عليها - أو أتذكرها في القبر، أو بين نفختي الصعق والبعث - النفخة الأولى، والنفخة الثانية يوم القيامة -؟ وأقصد بذلك أيضًا الأشياء التي أفكر فيها، وفجأة أنساها؛ لأني دائمًا أتضايق من نسياني للأشياء والأسئلة التي أفكر فيها، ولكني لا أستطيع تذكرها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيما معناه: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما حدثت به نفسها، ما لم تقل أو تفعل" والله يقول: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كل عنه مسؤولًا" والفؤاد هو القلب، وهل الله قال: "على نياتكم ترزقون"؟ وشكرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا ينبغي للعبد أن ينشغل بما يعلم أنه لن يحاسب عليه يوم القيامة، كالخواطر، والوساوس، فليس في العلم بكتابتها، وتذكرها يوم القيامة كبير فائدة! بخلاف أعمال القلوب التي يجري عليها الجزاء بالحسنات والسيئات يوم القيامة، فمن المفيد أن يعلم المرء أنها تكتب عليه، ويجدها في صحيفته يوم القيامة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه سبحانه هو وملائكته يعلمون ما توسوس به نفس العبد، كما ثبت في الصحيحين: {إذا هم العبد بحسنة فلم يعملها قال الله لملائكته: اكتبوها له حسنة، فإن عملها قال: اكتبوها له عشر حسنات، وإذا هم بسيئة .. } إلى آخر الحديث، فالملائكة يعلمون ما يهم به من حسنة وسيئة، والهم إنما يكون في النفس قبل العمل، وأبلغ من ذلك أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو يوسوس له بما يهواه، فيعلم ما تهواه نفسه، فقوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} هو قرب ذوات الملائكة، وقرب علم الله منه، وهو رب الملائكة والروح، وهم لا يعلمون شيئًا إلا بأمره؛ فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد، فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إليه من بعض؛ ولهذا قال في تمام الآية: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وهذا كقوله: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} فقوله: "إذ" ظرف فأخبر أنهم {أقرب إليه من حبل الوريد} حين يتلقى المتلقيان ما يقول {عن اليمين} قعيد {وعن الشمال قعيد} .. اهـ.

وقال العراقي في طرح التثريب: قال القاضي عياض: قال أبو جعفر الطبري: فيه ـ يعني الحديث الذي ذكره شيخ الإسلام ـ دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها، خلافًا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة، وحكى النووي ذلك عن أبي جعفر الطحاوي. اهـ.

وقال الشيخ ابن جبرين في شرح الطحاوية: حفظة الأعمال والأقوال، يكتبون كل ما يتكلم به، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:18] ... وكذلك يكتبون كل الأعمال؛ ولذلك وصفهم بقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]، أي: كل ما تفعلونه، وكل ما يخطر ببال أحدكم، أو يدور في خياله فإنه مكتوب، وكيف يكتبون أعمال القلب؟ يطلعهم الله على أعمال القلوب، فالأعمال التي تكنها القلوب يثاب عليها العبد أو يعاقب، فيثاب مثلاً على النصيحة، ويعاقب على الحسد والغل والغش، وهو من الأعمال القلبية، ويثاب على الإيمان الذي هو التصديق الجازم، ويعاقب على النفاق الذي هو الشك والريب، وهي من أعمال القلوب، فلا بد أن الملائكة تكتبها لقوله: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]، فهؤلاء هم الكتبة، ويسمون أيضًا: الحفظة للأعمال. اهـ.

وبذلك استدل طائفة من أهل العلم على كتابة الملائكة لأعمال القلوب، كابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية، ومن المعاصرين: ابن باز، وابن عثيمين، وصالح آل الشيخ، وغيرهم.

وهنا لا بد من التفريق في المؤاخذة بين أعمال القلوب وبين مجرد الوساوس، فهذه قد عفا الله عنها، وأما أعمال القلوب التي تستقر في الصدر فمما يدخل في عموم العمل؛ لأن القلب له عمله، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 136813.

قال الشيخ ابن باز: قوله سبحانه وتعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} هذا بالنسبة إلى المستقر في القلوب .. يؤاخذ به الإنسان، من نفاق، ورياء، وكبر، وغير هذا من أعمال القلوب، واعتقاداتٍ باطلة، سواء أظهرها أو أخفاها، فهو مؤاخذ بها.

أما ما يعرض للإنسان فالله قد سامحه فيه، وعفا عنه سبحانه وتعالى، ودلت السنة على أن قوله: {يحاسبكم به الله} يعني في ما يستقر، وفي ما يبقى في القلوب.

أما ما يعرض لها ويزول فالله يسامحه سبحانه وتعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل، أو تتكلم) .. فالمقصود أن أعمال القلب إذا استقرت يؤخذ بها، كالمحبة في الله، والبغضاء في الله يؤجر المؤمن.

وإذا فعل بقلبه خلاف ذلك من بغض المؤمنين، أو التكبر على أحد، أو النفاق، أو الرياء أخذ بذلك؛ لأن هذه أعمال قلبية، كالأعمال الإيمانية. اهـ.

وأما عبارة: (على نياتكم ترزقون) فليست من كلام الله تعالى، ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني