الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجوز الخروج على الحاكم كما خرج ابن الزبير؟

السؤال

كان مقصد ابن الزبير ـ رضي الله عنه ـ ومن معه، ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين - كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة وملك، ولما أشيع حول يزيد من شائعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق، والذي ينبغي أن يفهم أن ابن الزبير قام لله... لقد كان ـ رضي الله عنه ـ يهدف من وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى، ويتولى الأمة حينئذ أفضلها ـ لقد قلت هذا في هذا الرابط، فهل هذا يعني أنه يجوز الخروج على الملك والوراثة، كما خرج ابن الزبير؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد نقلنا هذا الكلام في جواب سؤال عن سبب وتوصيف الصراع بين ابن الزبير والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وبين يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم، ومع ذلك فلو رجع السائل لهذا الجواب فسيجد إشارة لجواب ما سأل عنه هنا، وذلك في كلام ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج، حيث قال: البغاة، وهم مخالفوا الإمام، ولو جائرًا؛ لحرمة الخروج عليه، أي: لا مطلقا، بل بعد استقرار الأمر المتأخر عن زمن الصحابة والسلف ـ رضي الله عنهم ـ فلا يرد خروج الحسين بن علي، وابن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ ومعهما كثير من السلف على يزيد، وعبد الملك، ودعوى المصنف الإجماع على حرمة الخروج على الجائر، إنما أراد الإجماع بعد انقضاء زمن الصحابة، واستقرار الأمور. اهـ.

وكذلك قول الرحيباني في مطالب أولي النهى: أما بعد استقرار الأحكام، وانعقاد الإجماع على تحريم الخروج على الجائر، فلا يجوز الخروج عليه. اهـ.

وراجع الفتوى رقم: 185603.

وقد سبق لنا في بيان مسألة الخروج بالسيف على الحاكم المسلم الظالم، أو الفاسق، الذي لا يبلغ فسقه الكفرَ البواح، أن سلف هذه الأمة وخيارها قد اختلفوا فيه، ثم آل الأمر ـ أو كاد ـ إلى اتفاق كلمة أكثر الأئمة المتبوعين، والعلماء المعروفين على القول بترك القتال، وعدم الخروج، حتى لقد حكى الإجماع على ذلك بعض أهل العلم، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 216631.

ولمزيد الإيضاح ننقل بقية كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية، حيث قال: وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء، وغاية هؤلاء إما أن يُغلبوا، وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة... فلا أقاموا دينًا، ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين، ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين، ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي، وعائشة، وطلحة، والزبير، وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله، وأحسن نية من غيرهم، وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق... ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، واعتبر أيضًا اعتبار أولي الأبصار، علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور؛ ولهذا لما أراد الحسين ـ رضي الله عنه ـ أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين، كابن عمر، وابن عباس، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يقتل، حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل ـ وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك، ومنعتك من الخروج، وهم في ذلك قاصدون نصيحته، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة، ويخطئ أخرى، فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين، ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير، ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم، والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصل بفعله صلاح، بل فساد؛ ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ـ ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقة للجماعة، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحيح كلها تدل على هذا. اهـ.

وراجع الفتوى رقم: 159845.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني