الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم من نذر صلاة النوافل في السفر والحضر، وماذا يلزمه عند العجز؟

السؤال

جزاكم الله الجنة ونعيمها على ما تقدمونه من نفع للناس، وأتمنى من كل قلبي أن تفيدوني في أقرب وقت عن استفساري بخصوص النذر.
كنت حديث البلوغ، وكذلك كنت قد درست النذر حديثًا، وكنت مسافرة إلى جماعتي، وفي السيارة قررت أن أصلي صلاة السنة عند الجماعة، وخفت أني إذا رجعت لبيت أهلي أن يضحك عليّ الشيطان، ولا أصليها، وتصبح رياء، فنذرت أن أصلي السنن في حال السفر، والإقامة: ركعتين بعد الفجر - لأني كنت أجهل أنها قبله - وأربع ركعات قبل صلاة الظهر، وأربع ركعات بعده، وركعتين بعد المغرب، وكذلك العشاء، والتزمت بها فترة - لا أذكر مدتها - وبعدها – للأسف - تكاسلت عن سنة الظهر فقط، وأن متأكدة من هذا الشيء؛ لأني قلت: بما أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يصلي السنة في السفر ما عدا سنة الفجر، والوتر فلا يلزمني الوفاء بنذري؛ لأني أتوقع -ولست متأكدة- أني ما نذرت هذا النذر إلا وأنا أعتقد أن الرسول عليه السلام يصليها في سفره، وأيضًا وعندما كنت حاملًا نسيت هل كنت أصلي السنن أم لا، لكن هناك احتمال كبير أني لم أكن أصليها لكبر البطن، ولأني في الوحم بداية الحمل كنت كسولة جدًّا، ولا أقوم إلا لدورة المياه- أكرمكم الله- وصلاة الفرض، ونسيت هل كنت أصلي السنن - أو بالكاد أصلي الفرض - وسألت شيخًا ثقة قبل فترة، وقال لي: في السفر لا يلزمك النذر؛ لأنه خلاف السنة، أما ما تركته فعليك الكفارة، ساعتها قلت له: عليّ سنة الظهر فقط؛ لأني تكاسلت عنها، والحمد لله التزمت بالكفارة، وأخرجتها، وأنا هنا أسألكم عن رأيكم فيما عليّ؟ وهل تكفي الكفارة التي أخرجتها عن جميع السنن التي تركتها سواء ذكرتها أم لا؟ وهل في السفر لا يلزمني الوفاء؟ وإذا كان يلزمني الوفاء، فما الطريقة؟ مع العلم أني أصبحت أسافر مسافات طويلة، ولأيام عدة بعد الزواج، ونقصر، ونجمع الصلوات المفروضة، كذلك وقت الحمل- إذا كتب لي ربي - هل يلزمني صلاة جميع السنن، خصوصًا مع تقدمه، أو بداياته إذا كان الوحم شديدًا؟ وسنة الظهر هل ألتزم بها أربع ركعات قبل الفرض، وأربع بعده أم أكتفي بأربع قبل الفرض، واثنتان بعده - أي ألتزم بالسنة المؤكدة فقط -؟ أفتوني مأجورين - نفع الله بكم، وسدد للخير خطاكم -.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد سبق الكلام على حكم النذر، ووجوب الوفاء به في الطاعة في الفتاوى التالية أرقامها: 11339، 23715، 49220، 50963.

وأما نذر ركعتين بعد صلاة الفجر فلا يصح عند جمهور أهل العلم؛ للنهي عن النفل في ذلك الوقت.

فقد جاء في شرح الخرشي لمختصر خليل المالكي عند قوله: وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ.

قال: يَعْنِي أَنَّ النَّذْرَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا مَا كَانَ مَنْدُوبًا فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ؛ فَلَا يَلْزَمُ فِي الْمُبَاحِ؛ كَنَذْرٍ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ فِي السُّوقِ، إذْ لَا قُرْبَةَ فِيهِ، وَالْمَكْرُوهُ أَحْرَى. اهـ.

وجاء في منح الجليل عند قول خليل المالكي في المختصر: وإنما يلزم به ما ندب.

قال: واحترز بما ندب عن الواجب، فلا يجب بالنذر؛ لأنه تحصيل حاصل، وعن المحرم، والمكروه، والمباح، فلا يجب شيء منها بالنذر. اهـ.

وقد جاء في الموسوعة الفقهية: ... الحنفية قالوا: يكره التنفل تحريمًا في أوقات وهي: بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح، إلا سنتها فلا تكره...

الحنابلة قالوا: يحرم التنفل, ولا ينعقد ولو كان له سبب في أوقات ثلاثة وهي: أولًا: من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس قدر رمح إلا ركعتي الفجر, فإنها تصح في هذا الوقت قبل صلاة الصبح ...

المالكية قالوا: ... ويكره ما ذكر من النفل، وما ماثله مما تقدم في أوقات: الأول: بعد طلوع الفجر إلى قبيل طلوع الشمس, ويستثنى من ذلك أمور: رغيبة الفجر فلا تكره قبل صلاة الصبح, أما بعدها فتكره, والورد وهو ما رتبه الشخص على نفسه من الصلاة ليلًا، فلا يكره فعله بعد طلوع الفجر بل يندب... اهـ.

وأما نذر ما سوى هذا من السنن، فيلزم الإتيان به على الأصح، كما قال النووي في المجموع: ولو نذر فعل السنن الراتبة، كالوتر، وسنة الصبح، وسنة الظهر فعلى وجهين، الأصح اللزوم. انتهى.

وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك الرواتب النهارية في السفر، فقد ذكره ابن عمر، وكان يكره الراتبة للمسافر إلا الوتر والفجر، وقد خالفه الجمهور فكانوا يرون الاستحباب.

فقد قال الامام مالك في الموطأ في باب: صلاة النافلة في السفر بالنهار والليل، والصلاة على الدابة: عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه لم يكن يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئًا قبلها، ولا بعدها إلا من جوف الليل، فإنه كان يصلي على الأرض، وعلى راحلته حيث توجهت به. اهـ.

قال الباجي في المنتقى: ومعنى هذا الحديث أن عبد الله بن عمر كان يكره التنفل بالنهار في السفر قبل الفريضة، وبعدها، ويقول: لو كنت مسبحًا لأتممت، يعني لو كان التنفل مطلقًا لكان الإتمام أولى، وعبد الله بن عمر ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، وكان من أكثر الناس اقتداء به، وذكر أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في السفر على ركعتين، فلما لم يره تنفل بالنهار امتنع من ذلك، ورآه يتنفل بالليل على راحلته، فكان يفعل ذلك، وكان أكثر العلماء على جواز تنفل المسافر بالليل والنهار على راحلته، وعلى الأرض، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم.

والدليل على ما نقوله حديث أم هانئ أنها رأته يصلي في فتح مكة ضحى ثمان ركعات، وسيأتي ذكره بعد هذا.

ومن جهة القياس أن هذا زمان يجوز التنفل فيه في الحضر، فجاز التنفل فيه في السفر، كزمان الليل .

(ص) : (مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن كانوا يتنفلون في السفر).

(ش): ليس في ظاهر هذا الحديث ما يدل على مخالفتهم لعبد الله بن عمر، ولا موافقتهم له؛ لأن إطلاق تنفلهم في السفر لا يتعلق بوقت معين، وإنما نفى عبد الله بن عمر التنفل في وقت معين، غير أن المشهور عن جميع السلف جواز ذلك في الليل والنهار، وإدخاله لذلك في هذا الباب دليل على أنه حمله على التنفل بالنهار.

(ص): (سئل مالك عن النافلة في السفر فقال: لا بأس بذلك بالليل والنهار، وقد بلغني أن بعض أهل العلم كان يفعل ذلك).

(ش) : وهذا على نحو ما ذكرناه من جواز التنفل بالليل والنهار، وقوله: قد بلغني أن بعض أهل العلم كان يفعل ذلك، إظهارا منه لاقتدائه فيه بغيره، وأنه لما عمل به أهل العلم، ورواه قَبِله.

(ص) : (مالك قال بلغني عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه عبيد الله بن عبد الله يتنفل في السفر فلا ينكر عليه).

(ش): قوله كان يرى ابنه عبيد الله بن عبد الله بن عمر يتنفل في السفر، يحتمل أن يكون ذلك بالليل، فلا ينكر عليه لجوازه, هذا ويحتمل أن يكون ذلك بالنهار فلا ينكر عليه لكثرة من خالفه فيه من الأئمة والعلماء، وهو الأشبه بنقل الخبر؛ لأن مثل هذا لا ينقل في الغالب إلا فيما فيه خلاف من المسائل، وسمع بإنكار على فاعله، ولا خلاف بين الأئمة في جواز التنفل بالليل في السفر، وعلى هذا الظاهر أدخله مالك في باب صلاة النافلة في السفر بالنهار. اهـ.

وقال النووي في المجموع: قال أصحابنا: يستحب النوافل في السفر، سواء الرواتب مع الفرائض وغيرها، هذا مذهبنا، ومذهب القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن، ومالك، وجماهير العلماء.

قال الترمذي: وبه قالت طائفة من الصحابة، وإسحاق، وأكثر أهل العلم، وقالت طائفة: لا يصلي الرواتب في السفر، وهو مذهب ابن عمر. اهـ.

وإذا تقرر أن الراجح هو مذهب الجمهور الذين يرون استحباب النفل في السفر، فإن من نذر الإتيان بالسنة يجب عليه فعلها دائمًا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نذر أن يطيع الله فليطعه. رواه البخاري.

وأما الكفارة التي عملتها، فإنها تكفي - إن شاء الله - عما سبق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كفارة النذر كفارة اليمين. رواه مسلم.

ولكنه يلزمك في المستقبل أن تحافظي على القيام بما نذرته، إلا إذا عجزت بسبب الحمل عجزًا معتبرًا، فيسقط عنك زمن العجز بسبب المرض.

واختلف هل يلزم القضاء أو الكفارة؟ فذهب المالكية إلى أنه لا قضاء عليك بسبب المرض، ويجب القضاء بالترك عمدًا كما قال المواق في التاج والاكليل: لا يقضي المعين إن أفطره لمرض، أو حيض، ويقضيه إن أفطره نسيانًا، أو سفرًا، أو عمدًا ...اهـ.

وقال الدردير في الشرح الصغير: (و) إن نذر شيئًا ولم يقدر عليه (سقط ما عجز عنه) وأتى بمقدوره ...اهـ.

وقال الشافعية: يقضي من ترك النذر ولو بعذر، فأحرى إن كان تركه عمدًا، كما جاء في شرح الخطيب على أبي شجاع: ولو نذر صلاة أو صومًا في وقت ففاته ولو بعذر، وجب عليه قضاؤه. اهـ.

وجاء في تحفة المحتاج: وإن نذر صلاة، أو صوما في وقت يصحان فيه (فمنعه مرض، أو عدو) كأسير يخاف إن لم يأكل قتل، وكأن يكرهه على التلبس بمنافي الصلاة جميع وقتها (وجب القضاء) اهـ.

وقال الحنابلة: تلزم الكفارة فقط، كما قال البهوتي في شرح منتهى الإرادات: (وإن نذر صلاة ونحوها) كجهاد (وعجز) عنه (فعليه الكفارة فقط) لأنه لم يف بنذره. اهـ.

وقال ابن قدامة: من نذر طاعة لا يطيقها، أو كان قادرًا عليها فعجز عنها، فعليه كفارة يمين؛ لما روى عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته، فقال: لتمش، ولتركب. متفق عليه. ولأبي داود: وتكفر يمينها. وللترمذي: ولتصم ثلاثة أيام. اهـ.

وقال أيضًا: وإن عجز لعارض يرجى زواله من مرض، أو نحوه، انتظر زواله، ولا تلزمه كفارة ولا غيرها؛ لأنه لم يفت الوقت، فيشبه المريض في شهر رمضان، فإن استمر عجزه إلى أن صار غير مرجو الزوال، صار إلى الكفارة.

إلى أن قال: وإن نذر غير الصيام فعجز عنه كالصلاة، ونحوها، فليس عليه إلا الكفارة؛ لأن الشرع لم يجعل لذلك بدلاً يصار إليه، فوجبت الكفارة، لمخالفته نذره فقط، وإن عجز عنه لعارض، فحكمه حكم الصيام سواء فيما فصلناه. انتهى بتصرف.

وأما سنة الظهر فيجزئ الاقتصار على أربع قبلها، واثنتين بعدها؛ لما رواه الترمذي عن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر.

والأفضل صلاة أربع قبل الظهر، وأربع بعدها كما رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أم حبيبة - رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حافظ على أربع كعات قبل الظهر، وأربع بعدها حرمه الله على النار.

وإن كنت نذرت أن تصلي أربعًا قبل الظهر وأربعًا بعدها، فعليك الوفاء بنذرك؛ لأن النذر إنما يجب الوفاء به على ما نذر الناذر؛ وراجعي الفتوى رقم: 97281.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني