الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأجداد كالوالدين في البِّر، لا يسقط حقهم وإن أساؤوا

السؤال

أود أن أشكر كل مشايخنا الأفاضل على إتاحة هذه الفرصة لأطرح سؤالي للفتوى جزاكم الله خيرًا -. مشكلتي - يا شيخنا - هي أنني أعاني منذ طفولتي بسبب جدتي، التي قلبت حياتي رأسًا على عقب، فجدتي لا تخاف الله، وعندما كان عمري 12 سنة، طلبت من والدي أن تربيني عندها، ووالدي لم يرفض لها طلبًا أبدًا مهما كان؛ لظروفه المادية، ولأنها من تعيله، فيطيعها حتى وإن كان غير موافق على طلبها بينه وبين نفسه، فأخذتني عندها، وربتني، وكانت تقسو علي، وتعاملني معاملة الخدم، وأمام الناس تظهر لهم أنها تعتني بي، وتحبني، وكانت دائمًا تحرض أعمامي، ووالدي عليّ ليقوموا بضربي؛ لأنها تكره أمي، وكانت غير راضية عن زواجها من والدي، فتحب أن تنتقم منها عن طريقي، فعانيت كثيرًا منها، وكم مرة نمت في الشارع بسببها، وكم مرة أخذتني للشرطة، وافترت عليّ، وعلقوني بسببها، وأذكر أنه في يوم من أيام الطفولة كنت جنب البيت أتحدث مع أصدقائي، ونادتني، وتأخرت لمدة دقيقة، وتلك الدقيقة كنت أستأذن فيها من أصدقائي، وأقول لهم: إنني ذاهب، وأنهي الحديث الذي كان بيني وبينهم، فضربتي، وشتمتني أمامهم، وأخذتني إلى طبيب نفسي، وعندما سمع الطبيب القصة قال لها: أنت من يحتاج إلى علاج، وليس ابن ولدك، فغضبت، وشتمته، وأخذتني، وكانت تأتيني بماء ملون، وتقول لي: اغتسل به، فأغتسل به، وبعد مرور السنين، اكتشفت أن هذا الماء كانت تأتي به من عند عرافة، وغضبت كثيرًا، وكان كل يوم يزداد حقدي عليها أكثر من اليوم السابق؛ بسبب تصرفاتها معي، فهي إنسانة منافقة، كاذبة، تحلف زورًا، وتفتري على الناس، وقبل سنة اكتمل كرهي لها، وحقدي عليها بسبب مشكلة حدثت بيننا، وذهبت إلى أمي التي كانت لا تكلمها مطلقًا قبل ذلك، وقالت لها: إنني لقيط، وأنها أتت بي من الشارع، وإنني لست ابن ولدها، وعندما كلمتها في الموضوع، أنكرت ولم تود التحدث فيه، ولم أستطع نسيان ذاك الكلام - يا شيخ – فقد طعنت فيّ، وفي شرف أمي، وهي تعلم أنني لست كذلك، فحقدت عليها كثيرًا لدرجة أنني عندما أراها مريضة، أو تعاني أفرح من كل قلبي دون شعور.
يا شيخ أنا أكره هذه الجدة جدًّا، وأحيانًا أفكر في قتلها لأتخلص من معاناتي التي عانيت بسببها سنين دمرت حياتي، لم أكمل دراستي بسببها، مع أني كنت متفوقًا.
يا شيخ: لقد وضعت وشمًا باسمها في ذراعي لكيلا أنسى ما فعلته بي، وما عانيت على مر السنين بسببها.
أعلم - يا شيخ - أن كل الحروف لا تكفي لأحكي لك معاناتي معها، لكني اكتفيت بالتلخيص، فماذا أفعل، فأنا حائر كيف أتصرف معها؟ وهل يجوز أن أسبها إذا سبتني؟ وهل يجوز الانتقام منها - جزاكم الله خيرًا -؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن كانت جدتك على الحال الذي ذكرت، فهي امرأة سوء، قد أتت بجملة من المنكرات، ومنها قسوتها في التعامل معك، وإعطاؤها إياك ماء الكهانة لتغتسل به.

ومجرد بغض هذه التصرفات التي تصدر عنها، لا حرج فيه، ولا يعتبر عقوقًا، إن لم يصحب ذلك أي نوع من الإساءة إليها.

والبر بالأجداد مطلوب، فقد قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات، فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الإخوة، وسائر القرابات. اهـ.

وقد نص ابن حزم في كتابه: مراتب الإجماع على اتفاق أهل العلم على فرضية بر الجد، فقال: «وَاتَّفَقُوا ‌أَن ‌بر ‌الْوَالِدين ‌فرض وَاتَّفَقُوا أَن بر الْجد فرض» انتهى.

ومن أدب التعامل معهم حال إتيانهم بالمعاصي ما قاله ابن عابدين الحنفي في رد المحتار: إذا رأى منكرًا من والديه يأمرهما مرة، فإن قبلا فبها، وإن كرها سكت عنهما، واشتغل بالدعاء، والاستغفار لهما، فإن الله تعالى يكفيه ما أهمه من أمرهما. اهـ.

فالمطلوب الصبر عليها، والدعاء لها بالهداية، وسلوك سبيل الرشد والصواب، ولا يجوز لك سبها وإن سبتك، ولا يجوز لك التفكير في الانتقام منها فضلًا عن أن تقدم عليه، فحق الوالد في البر والإحسان لا يسقط بإساءته، كما سبق أن بينا في الفتوى رقم: 3459.

وإذا اتقيت الله، وصبرت على أذاها لم يضع ذلك سدى؛ لأنك بالتقوى والصبر تدخل في زمرة المحسنين، كما قال الله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {يوسف:90}.

والمحسنون سعيهم مشكور، وأجرهم محفوظ؛ قال سبحانه: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {هود:115}.

ونوصيك بالتسلي عن ذلك كله بالانشغال بما ينفعك من أمر معاشك ومعادك، فتحضر مجالس العلم، وتحرص على عمل الصالحات، وتصحب الأخيار، وتتعاون معهم على البر والتقوى، والدعوة إلى الخير والصلاح؛ قال الله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {آل عمران:110}.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال عن هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني