الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أدلة تحريم الاستمناء لا تنحصر في عدم إرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام إليه

السؤال

الأقوال التي احتج بها من قال بحرمة الاستمناء، كلها مبنية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرشد أحدًا إلى الاستمناء، ولكن هل معنى ذلك حرمته؟ والآية التي في سورة المؤمنون، سياقها يدل على أن المقصود من أفضى بفرجه في نكاح جنسي، فما قولكم -جزاكم الله خيرًا-؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأدلة تحريم الاستمناء لا تنحصر في عدم إرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام إليه، بل الأدلة على تحريمه متعددة ومتنوعة، وانظر الفتوى رقم: 21512 وإحالاتها.

وبخصوص عدم إرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الاستمناء، فالاستدلال على التحريم لا يتم به مجردًا، وإنما مع الأخذ في الاعتبار أن روح الشريعة الإسلامية هي التيسير، ورفع الحرج، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام رؤوف رحيم بأمته، وهذا يأبى عليه أن يرشد الشباب إلى ما يشق عليهم، مع إمكان إرشادهم إلى ما هو أخف عليهم وأهون، ومع هذا فقد أرشد الشباب إلى الصيام لا الاستمناء، فدل ذلك على أن الاستمناء غير مشروع.

قال ابن عثيمين -رحمه الله-: فلو كان جائزًا لأرشد إليه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أشد الناس رأفة بأمته. لقاء الباب المفتوح.

وقال أيضًا: ووجه الدلالة من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن لم يستطع، فعليه بالصوم»؛ لأن هذه العادة ـ الاستمناء ـ لو كانت جائزة لأرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أهون من الصوم، لا سيما عند الشباب؛ ولأنها أيسر؛ ولأن الإنسان ينال فيها شيئًا من المتعة، فهي جامعة بين سببين يقتضيان الحل لو كانت حلالًا، والسببان هما: السهولة، واللذة، والصوم فيه مشقة، وليس فيه لذة، فلو كان هذا جائزًا لاختاره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأرشد إليه؛ لأنه موافق لروح الدين الإسلامي لو كان جائزًا، وعلى هذا فيكون الحديث دليلًا على التحريم. الشرح الممتع.

وأما بخصوص الآية الكريمة، فإنها لا تقتصر في دلالتها على تحريم الوطء بالفرج، وإنما تدل بعد تعمق النظر، والتأمل في سياقها على حرمة الاستمناء أيضًا بعمومها.

يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ آيَةَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ الَّتِي هِيَ: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [23: 7] تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ، الْمَعْرُوفِ بِجَلْدِ عَمِيرَةَ، وَيُقَالُ لَهُ الْخَضْخَضَةُ; لِأَنَّ مَنْ تَلَذَّذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْزَلَ مَنِيَّهُ بِذَلِكَ، قَدِ ابْتَغَى وَرَاءَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ مِنَ الْعَادِينَ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَفِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ [70: 1] وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عَمِيرَةَ. فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَى قَوْلِهِ الْعَادُونَ [23: 5 - 7].

قَالَ مُقَيِّدُهُ -عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ اسْتِدْلَالَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَلَى مَنْعِ جَلْدِ عَمِيرَةَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يُعَارِضُهُ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَعَ عِلْمِهِ، وَجَلَالَتِهِ، وَوَرَعِهِ مِنْ إِبَاحَةِ جَلْدِ عَمِيرَةَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ قَائِلًا: هُوَ إِخْرَاجُ فَضْلَةٍ مِنَ الْبَدَنِ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى إِخْرَاجِهَا فَجَازَ، قِيَاسًا عَلَى الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ، كَمَا قَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لَا أَنِيسَ بِهِ ... فَاجْلِدْ عَمِيرَةَ لَا عَارٌ وَلَا حَرَجُ.

فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ فِي الْمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا; لِأَنَّهُ قِيَاسٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَ عُمُومِ الْقُرْآنِ، وَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ رُدَّ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى فَسَادَ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا، وَذَكَرْنَا فِيهِ قَوْلَ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ:

وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاع دَعَا ... فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى

فَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ إِلَّا النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَصَرَّحَ بِرَفْعِ الْمَلَامَةِ فِي عَدَمِ حِفْظِ الْفَرْجِ، عَنِ الزَّوْجَةِ، وَالْمَمْلُوكَةِ فَقَطْ، ثُمَّ جَاءَ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ شَامِلَةٍ لِغَيْرِ النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، دَالَّةٍ عَلَى الْمَنْعِ هِيَ قَوْلُهُ: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [23: 7] وَهَذَا الْعُمُومُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ، نَاكِحَ يَدِهِ، وَظَاهِرُ عُمُومِ الْقُرْآنِ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، أَمَّا الْقِيَاسُ الْمُخَالِفُ لَهُ فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني