الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اعتمرت ثم أصابتني جنابة، فذهبت إلى الحرم، وأديت عمرة ثانية دون أن أغتسل

السؤال

شيخنا الفاضل: قدمت إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وبعد الانتهاء من أداء العمرة عدت إلى السكن، فأصابتني جنابة، وفي اليوم الثاني ذهبت إلى الحرم، وأديت عمرة ثانية دون أن أغتسل من الجنابة حياءً وخجلاً من زملائي في السكن، والآن أشعر بالذنب لما فعلت، فماذا عليّ الآن؟ أفيدونا مأجورين- جزاكم الله خيرًا -.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فنقول ابتداء: إن التحلل من العمرة يحصل بالحلق أو التقصير بعد الطواف والسعي، فإن كنت قد تحللت من العمرة الأولى كما يُفهم من قولك: بعد الانتهاء من العمرة ـ فإن العمرة الثانية تحتاج إلى إحرام جديد، فإن اعتمرت من غير أن تحرم لها فإنك لم تعتمر حقيقة؛ لأن الإحرام ركن في العمرة لا تصح العمرة بدونه، كمن دخل في الصلاة ولم يكبر، فإنه لم يصل، إلا أنك أخطأت بدخولك الحرم وأنت جنب؛ لأن الجنب ممنوع من دخول المسجد، وقد ذكرنا أقوال الفقهاء حول هذا في الفتوى رقم: 22059.

وإن كنت قد أحرمت لها، فإحرام الجنب صحيح، كما بيناه في الفتوى رقم: 115788.

ولكن طوافك لا يصح؛ لأن من شرط صحة الطواف الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر في قول جمهور أهل العلم، جاء في الموسوعة الفقهية: لاَ يَصِحُّ الطَّوَافُ مِمَّنْ كَانَ جُنُبًا، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَإِنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لأِنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ شَرْطًا، وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ... اهـ.

وما ذكر عن الحنفية من وجوب البدنة لمن طاف جنبًا إنما هو في طواف الحج.

وأما من طاف للعمرة وهو جنب، فإنه تجب عندهم عليه شاة، قال ابن نجيم في البحر الرائق: لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ كُلَّهُ، أَوْ أَكْثَرَهُ، أَوْ أَقَلَّهُ، لَوْ شَوْطًا جُنُبًا، أَوْ حَائِضًا، أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ لِلْبَدَنَةِ. اهـ.

فعلى قول الجمهور، فإنك إذا لم تعد الطواف بعد الطهارة فأنت لم تزل على إحرامك، فيجبُ عليك أن تكف عما يكفُ عنه المحرم، وتذهب إلى مكة ـ إن كنت خرجت منها ـ فتطوف طواف العمرة, وتسعى بين الصفا والمروة أيضًا؛ لأن سعيك الأول لم يصح؛ إذ لا يكون السعي إلا بعد طواف صحيح، ثم تتحلل من عمرتك بالحلق أو التقصير، فإذا عجزت عن إتيان مكة فحكمك حكم المحصر تذبح دمًا، وتتحلل من نُسكك؛ لقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ {البقرة 196}.

كما تلزمك التوبة إلى الله تعالى بالندم على ما فعلت، والعزم على عدم العودة إليه، والله تعالى أحق أن تستحي منه ممن معك.

وإذا كنت أحرمت بالعمرة الثانية من مكة، ولم تخرج إلى الحل فقد تركت واجبًا وهو الإحرام من الحل، فيلزمك دم، قال ابن قدامة في المغني: وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ، انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِهِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ إنْ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ قَبْلَ الطَّوَافِ، ثُمَّ عَادَ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِأَرْكَانِهَا، وَإِنَّمَا أَخَلَّ بِالْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهَا، وَقَدْ جَبَرَهُ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ بِالْحَجِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي، لَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، كَالْحَجِّ، فَعَلَى هَذَا وُجُودُ هَذَا الطَّوَافِ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ، ثُمَّ يَطُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْعَى. اهـ.

ثم قولك: وأصابتني جنابة، وفي اليوم الثاني ذهبت إلى الحرم، وأديت عمرة ثانية من دون أن أغتسل من الجنابة... هو مشعر بأنك قد صليت بعض الصلوات وأنت جنب، أو أنك لم تصلها أصلًا، وإذا كان الأمر كذلك، فإنك به مخطئ خطأ كبيرًا، ويلزمك أن تقضي كل تلك الصلوات التي صليتها وأنت جنب، ولا تبرأ ذمتك إلا بقضائها، وتجب عليك التوبة إلى الله تعالى من جميع ما اقترفته من الذنوب، وانظر الفتوى رقم: 128707، عن حكم من صلى بغير طهارة متعمدًا, والفتويين رقم: 77548، ورقم: 181829، وكلاهما عن صلاة الجنب وما يترتب عليها.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني