الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نظرات في الصراع مع اليهود، ومعى قول الله: وحرام على قرية أهلكناها....

السؤال

سألتكم عن سبب عودة بني إسرائيل إلى القدس، حيث طردهم الله منها مرتين؛ لأنهم أفسدوا في الأرض (البيت المقدس)، وعلوا علوًا كبيرًا. لكن الآن عادوا من جديد، والله قال: "وإن عدتم عدنا" يعني: لهم شرط في عودتهم، ألا يفسدوا، ولا يعلوا في الأرض المقدسة، فإن عادوا إلى فسادهم طردهم الله منها، لكن في الأول كان البابليون، وفي المرة الثانية الروم، وفي المرة الثالثة المسلمون (أمة نبينا محمد)، حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي، فتعال فاقتله، وفي آية أخرى قال تعالى: "وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون"، وتعلمون ماذا يأتي بعد هذه الآية، أي قرية هذه؟ وما ارتباطها بيأجوج مأجوج؟ يعني: الذين حرم الله عودتهم إلى منطقة بعد أن أهلكهم، سيعودون بعد ما فتحت يأجوج ومأجوج إلى قريتهم، أليس بنو إسرائيل؟ ويأجوج ومأجوج يساندونهم بوعد بالفوز، ومن ثم أمريكا يستلمهم بعد بريطانيا(وتعلمون التاريخ وما حصل)، ومن صفة يأجوج ومأجوج: أنهم يفسدون في الأرض، ولهم قوة تفوق قوة ذي القرنين (لأنه بنى سدًا، ولم يعذبهم أو يقتلهم).
أرجو التعليق على كل مسألة، وأسأل الله أن يزيدنا علمًا، ويهدينا أجمعين.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أجبناك في سؤال سابق لك بالفتوى رقم: 267307 عن السبب الباعث لعودة اليهود للقدس.

وقد أخبرنا الله في آيات الإسراء في قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء:4- 6].
أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين، ويتجبرون فيها، وقد حصل ذلك منهم، فأرسل الله عليهم في المرة الأولى بختنصر، فاستباح بيضتهم، واستأصل شأفتهم، وأذلهم، وقهرهم، جزاء وفاقًا، ثم رد الله لبني إسرائيل قوتهم، ومدهم كأول مرة، فعتوا كسابق عهدهم، وحصل منهم إفساد في الأرض كالإفساد الأول أو يزيد، فأرسل الله عليهم من فعل بهم مثل فعل بختنصر أو يزيد، وهو بيردوس ملك بابل، كما ذكر ذلك البيضاوي في تفسيره، وبعد أن هزمهم وقهرهم، ودب اليأس في قلوبهم، بيّن لهم عز وجل أنه سيرحمهم إن تابوا وأنابوا، فإن عادوا للإفساد سلط الله عليهم من يهينهم به، ولم يذكر فيها شرط أنه لن يحصل منهم إفساد بعد عودهم، قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: وقوله تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) وهذا مما أخبروا به في كتابهم، وعسى: وعد من الله أن يكشف عنهم، وعسى من الله واجبة، وجعل منهم الملوك، (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) قال قتادة: فعادوا، فبعث الله عليهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فهم يعطون الجزية بالصغار. اهـ.
وقال البيضاوي -رحمه الله-: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الآخرة، وَإِنْ عُدْتُمْ نوبة أخرى عُدْنَا مرة ثالثة إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب محمد -صلى الله عليه وسلم- فعاد الله بتسليطه عليهم، فقتل قريظة، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين. انتهى.

وأما قتال المسلمين لليهود: فحق، وسينصرهم الله عليهم إن قاتلوا بصدق وإخلاص؛ كما قال الله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {الروم:47}، وقال تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {آل عمران:139}، وقال تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {الصافات:173}.

وأما عن اختبائهم بالشجر والحجر: فهو ثابت؛ كما في الحديث الذي رواه البخاري، ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: تعال يا مسلم، هذا يهوديّ ورائي، فاقتله". وفي لفظ لمسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال، فاقتله، إلاّ الغرقد". ولكن الوقت الذي يقع فيه ذلك يحتمل أن يكون عند خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه السلام-، وظهور المهدي، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): وفي رواية لأحمد من طريق أخرى عن سالم عن أبيه: "ينزل الدجال هذه السبخة -أي: خارج المدينة-، ثم يسلط الله عليه المسلمين، فيقتلون شيعته، حتى إن اليهودي ليختبئ تحت الشجر والحجر، فيقول الحجر والشجر للمسلم: هذا يهودي فاقتله. وعلى هذا؛ فالمراد بقتال اليهود: وقوع ذلك إذا خرج الدجال، ونزل عيسى، وكما وقع صريحًا في حديث أبي أمامة في قصة خروج الدجال، ونزول عيسى -عليه السلام-، وفيه: "وراء الدجال سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى، فيدركه عيسى عند باب لدّ، فيقتله، وينهزم اليهود، فلا يبقى شيء مما يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، فقال: يا عبد الله -للمسلم- هذا يهودي، فتعال، فاقتله، إلا الغرقد فإنها من شجرهم" أخرجه ابن ماجه مطولًا، وأصله عند أبي داود، ونحوه في حديث سمرة عند أحمد بإسناد حسن، وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من حديث حذيفة بإسناد صحيح. اهـ.
وأما آية الأنبياء: فليست خاصة بقرية معينة، ولا باليهود، ولا يراد بها من حرم عليهم العود، وإنما يراد بها: من هلكوا بالفعل، أو من لا يتوبون؛ قال القرطبي -رحمه الله- في «تفسيره» 11/ 298: قال النحاس: والآية مشكلة، ومن أحسن ما قيل فيها وأجله: ما رواه عكرمة عن ابن عباس في قول الله -عز وجل-: (وحرام على قرية أهلكناها) قال: وجب أنهم لا يرجعون. قال: لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بيّن في اللغة، وشرحه: أن معنى حرم الشيء: حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل: أبيح ولم يمنع منه. وقيل: في الكلام إضمار. أي: وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منها عمل، لأنهم لا يرجعون، أي: لا يتوبون، قاله الزجاج، وأبو علي، وهذا هو معنى قول ابن عباس. اهـ.

وقال ابن جزي: اختلف في معنى الآية، فقيل: حرام بمعنى: ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة، أو ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا، ولا زائدة في الوجهين، وقيل: حرام بمعنى: حتم واقع لا محالة، ويتصور فيه الوجهان، وتكون لا نافية فيهما، أي: حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة، أو: حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا، وقيل: المعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة، ولا على هذا نافية أيضًا، ففيه ردّ على من أنكر البعث. اهـ.
أما ما ذكره الله تعالى في قوله: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. {الأنبياء:97،96} فالمقصود به: ظهور أشراط الساعة، وقيام القيامة، ومجيء اليوم الآخر، والعلاقة بينه وبين الآية السابقة: أنه لا يحصل رجوع القرية المهلكة حتى تقوم الساعة؛ فقد جاء في تفسير الزمخشري: فإن قلت: بم تعلقت حَتَّى واقعة غاية له؟ قلت: هي متعلقة بحرام، وهي غاية له، لأنّ امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي حَتَّى التي يحكى بعدها الكلام، والكلام المحكيّ: الجملة من الشرط والجزاء، أعني: «إذا» وما في حيزها. اهـ. وراجع تفسير الشوكاني، والألوسي.
وبهذا تعلم؛ أنه لا علاقة بين اليهود المعاصرين المؤيدين من طرف الغرب وبين ما يحصل بعد خروج يأجوج ومأجوج.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني