الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أحوال قبول الهدية وردها

السؤال

هل من الصواب أو المروءة أن أرضى بأخذ ثياب استعملها صاحبها قليلاً ـ ربما مرة واحدة ـ ثم أخبرني أنها واسعة عليه، وأنه يعتبرني مثل نفسه (وهو صديق عزيز ذو خلق رفيع) وهذه الثياب غالية الثمن فلا يريد إعطاءها لأي أحد، ولكن يريد أن يعطيها لي، هل الأولى شرعاً والأكمل خلقاً والأحب والأرضى لله تعالى أن أرضى بأخذ هذه الثياب أم أرفض وأردها مع شكري لصاحبها الذي أراد أن يهديني إياها؟ علماً أن الله تعالى أغناني من فضله ولست بحاجة لأخذ هذه الثياب ولا غيرها ـ والحمد لله رب العالمين ـ أنا لا أخفيكم فلا أتصور نفسي أجلس وأنا أرتدي هذه الثياب أمام صاحبها الذي استعملها، ولا أدري هل هذا من الكبر ـ والعياذ بالله تعالى ـ أم أنه عزة نفس، وهل ذلك أمر محمود أم مذموم شرعاً ويجب علاجه؟.
جزاكم الله تعالى خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالتهادي بين المسلمين مستحب، ويكره رد الهدية إلا لعلة، قال البهوتي في (كشاف القناع): (ولا ترد) أي: يكره رد الهدية ... (ويجوز ردها) أي: الهدية (لأمور مثل أن يريد أخذها بعقد معاوضة .. (أو يكون المعطي لا يقنع بالثواب المعتاد) لما في القبول من المشقة حينئذ (أو تكون) الهدية (بعد السؤال واستشراف النفس لها) ... (أو لقطع المنة) إذا كان على الآخذ فيه مِنّة. اهـ.
وعن أبي هريرة أن أعرابيا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فعوضه منها ست بكرات فتسخطه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فلانا أهدى إلي ناقة فعوضته منها ست بكرات فظل ساخطا، ولقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي. رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد، وصححه الألباني.
قال التوربشتي: كره قبول الهدية ممن كان الباعث له عليها طلب الاستكثار، وإنما خص المذكورين فيه بهذه الفضيلة لما عرف منهم من سخاوة النفس وعلو الهمة وقطع النظر عن الأعواض. اهـ. نقله عنه الطيبي والقاري في شرح المشكاة.
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار): كان بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من قبول الهدية من أحد أصلا، لا من صديق ولا من قريب ولا غيرهما، وذلك لفساد النيات في هذا الزمان، حكى ذلك ابن رسلان. اهـ.
فعلم بذلك أن قبول الهدية يختلف حكمه بحسب حال المهدي والمهدى إليه، وأن الأصل هو استحباب قبولها إذا خلت من أسباب الرد، حتى لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت. رواه البخاري. قال ابن حجر في (فتح الباري): وفي الحديث دليل على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وجبره لقلوب الناس وعلى قبول الهدية اهـ.
وعن الصعب بن جثامة الليثي: أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم. رواه البخاري ومسلم. قال القاضي عياض في (إكمال المعلم): وفى اعتذار النبي عليه السلام دليل على استحباب قبول هدية الصديق وكراهة ردها لما يقع في نفسه، ألا ترى تطييب النبي عليه السلام قلبه... اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم: فيه أنه يستحب لمن امتنع من قبول هدية ونحوها لعذر أن يعتذر بذلك إلى المهدي تطييبا لقلبه. اهـ.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): فيه الاعتذار عن رد الهدية تطييبا لقلب المهدي. اهـ.
ولذلك نقول للأخ السائل: إن كنت تعلم أن في قبول ثياب صديقك تطييبا لخاطره، وإدخالا للسرور عليه، ولم يكن في ذلك مِنة عليك، فالأفضل لك قبولها وإن كان قد استعملها، ولم تكن في حاجة إليها؛ تأسيا بتواضع النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الذراع والكراع! وراجع الفتوى رقم: 94363. وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم من ثياب أصحابه، فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي. رواه البخاري ومسلم. قال ابن الملقن في (التوضيح): {بأنبجانية} ـ وهي كساء غليظ كثيرة الصوف ـ فعل ذلك تواضعا صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال ابن عبد البر في (الاستذكار): فيه دليل على أن من ردت عليه هديته يشق ذلك عليه، فلذلك آنسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أخذ منه كساء آخر لا عَلَم فيه؛ ليعلم أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به ولا قِلَى له ولا كراهية لكسبه. اهـ.
وذكر هذا المعنى ابن بطال في (شرح صحيح البخاري) والقاضي عياض في (إكمال المعلم).
وأما امتناعك عن ذلك، فلا يظهر لنا أنه من الكبر؛ فقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر فقال: الكبر بطر الحق وغمط الناس. رواه مسلم. وإنما هو إلى الأنفة والاستحياء أقرب.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني