الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الخوف على النفس من النفاق مطلوب ما لم يؤد إلى اليأس أو القنوط

السؤال

تخرجت من الجامعة شابا ملتزما، وتوظفت، ثم تزوجت, وبدأت أخفف لحيتي، وكانت معاملتي لزوجتي سيئة، وقد ارتكبت الزنا بعد الزواج عدة مرات -أسأل ربي أن يغفر لي-, وذات يوم صُدمت خلال مزحي مع أختي وهي تقول لي: إن لديك مرض الفصام في الشخصية. ومن بعدها لم أعد أستطع النوم، وأحسست بشيء يدب في جسمي مثل دبيب النمل، ثم كأن شيئا يدخل قلبي، ويستقر فيه, فعدت إلى الله، والتزمت، وتبت من الحرام. وبعد عدة أسابيع خف البلاء بعد التداوي بالقرآن والأذكار، ولم أستخدم أي علاج نفسي, وبعد عدة سنوات بدأ الإيمان ينقص، وعدت إلى الذنوب مرة أخرى، ثم توالت عليّ المصائب، فطلقت زوجتي، ثم راجعتها، وتزوجت عليها بأخرى، ثم طلقتها مرة أخرى، ثم راجعتها. وبعد مرور سنتين طلقت الثانية طلاقا نهائيا لعدم التوافق الشخصي بعد أن أنجبت لي بنتا، وهي تعيش معها. ثم حصلت مشاكل مع أهل زوجتي الأولى، وخاصة زوجة عديلي الثاني, وقاطعتهم جميعا لمدة خمس سنوات غير أني لم أمنع أهلها من زيارتها، أو ذهابها إليهم. وكنت أخوض في أعراض المسلمين، وأتجسس عليهم. ثم انتقلت بوظيفتي إلى مدينة أخرى، وعشت وحيدا لمدة ثلاث سنوات، وأذهب لزوجتي وأولادي كل شهر مرة, وفي إحدى الليالي كنت بمفردي في شقتي بعد أن صليت الوتر أخذت المصحف، وكان لي ورد يومي, وكنت أقرأ في سورة التوبة وعندما وصلت إلى الآية: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) أحسست بسقوطها في قلبي، وأحسست مثل الهاتف حولي يقول لي: يا منافق، يا متكبر، يا فاسق. وإذا بجميع ما ارتكبته في حياتي يمر علي كالشريط، فأصابني هلع شديد، وقمت أتوسل إلى الله بأن يغفر لي ما قد ارتكبته من الذنوب، وأني سوف أتوب توبة نصوحا، وفي اليوم التالي كانت خطبة صلاة الجمعة عن النفاق والمنافقين، فازددت هما وغما، وبكيت، ودعوت الله أن يغفر لي، وخرجت من المسجد كي أتصدق، وإذا بمثل الهاتف حولي يتلو علي الآية التالية: (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) فازداد البلاء والهم، وأحسست بالهلاك، وبعد هذا الحدث عدت إلى زوجتي وصالحتها، ودفعت لها مبلغا كبيرا من المال، وأخبرتها بما حصل لي، وذهبت لأهلها وصالحتهم، وكذلك لعديلي، ولجميع قرابة زوجتي -أكتب لكم وعيوني مغرورقة بالدموع- وسألتهم بأن يقتصوا مني الآن قبل الممات، ولكن لا يعلمون بما حدث لي, فسامحوني جميعا, وصلحت أمور حياتي، والتزمت، وأعفيت لحيتي، وأواظب مع أبنائي على جميع الفروض في أوقاتها في المسجد، وقيام الليل، ومداومة أذكار الصباح والمساء، والمداومة على ذكر الله، والإكثار من أعمال الخير، والنصح، والمداومة على قراءة الكتب النافعة، مثل: كتب ابن القيم (الداء والدواء – الوابل الصيب) في آثار الذنوب والمعاصي.
بقي لدي مشكلة أتعبتني، وهي: أنه ينتابني شيء من الشعور بأني لا زلت منافقا، وأن توبتي ربما قد أقفل الباب دونها, وأحس ببعض الشكوك والشبهات في قلبي، وبعدم الطمأنينة والسكينة، وأحس مثل دبيب النمل في جسدي، وشيء من القنوط، واليأس، والخوف من الخلود في النار، مع حسن ظني بربي، ولي الآن قرابة السنة على هذا الوضع.
سؤالي -بارك الله فيكم-:
هل هذا الذي لحقني من خزي العذاب في الدنيا مع ما يتوعد الله بالعذاب في الآخرة كما توعد الله المنافقين والكفار، فأعزي نفسي، وأبكي عليها أم هو ابتلاء وتمحيص، فأفرح وأصبر؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنه ليس لدينا ما يجزم في سبب ما حصل لك، ولكنا نبشرك بأن التوبة قد تعهد الله تعالى بقبولها ممن تاب صادقًا مخلصًا؛ فقد قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى: 25 }، وقال تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {المائدة: 39 }، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً {النساء}، وقال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {النساء:17}، وقال عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53}.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -تبارك وتعالى-: ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي، وحسنه، وصححه الألباني. وقال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.

ثم إن الخوف من النفاق مؤشر خير، ما لم يحمل على القنوط من رحمة الله أو الوسوسة؛ فإنه ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق؛ كما قال الحسن البصري، وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يسأل حذيفة بن اليمان فيقول: هل عدني لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين؟ فيقول: لا.

وقال البخاري -رحمه الله-: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: «مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا»، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ" وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: "مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلاَ أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ." اهـ.

وعليك أن تكثر من مطالعة كتب الترغيب والترهيب، وأن تجمع مع خوفك من الله تعالى حسن الظن به، والرجاء لفضله ومثوبته، وأكثر التفكر في صفات جماله، كالرحمة، والحلم, والبر, والرفق, واللطف, ونحوها من صفاته التي تملأ القلب حبًّا له, ووثوقًا به، ورجاء لفضله تعالى، وبذا يحصل لك التوازن بين هذين الجناحين اللذين لا بد منهما في طريق السير إلى الله تعالى، وهما: الخوف والرجاء، وانظر الفتويين رقم: 133975، ورقم: 117814.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني