الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفهم السليم لقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم..

السؤال

انطلاقا من القاعدة الشهيرة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" وانطلاقا من قوله تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون". ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن". فبغض النظر عن السياق الذي ورت فيه الآية الكريمة، وباعتبارها دستورا إلهيا عاما وشاملا لكل الأحوال وفي كل الأوقات نقول: كل ما حصل لنا اليوم أو بالأمس أو ما سيحصل غدا لا يخرج عن إرادة الله، وإرادة الله بناء على الآية السابقة تعلقت بالغاية الإلهية العظيمة وهي التطهير "بمعناه العام من كل ما يدنس الإنسان من ذنب أو ظلم أو مرض أو عيب" ولإتمام النعمة بمعناه العام أيضا: "كما وكيفا". وهذا الاستنتاج من أن الله "يريد"، أتى بعدها "لام التعليل" فهو يريد ليطهركم ولم يقل تعالى يريد أن يطهركم وأن يتم نعمته عليكم، بل يريد ليطهركم، فالآية وضحت الغاية والحكمة من كل ما أراده لعبده. بناء على ما سبق سأضرب مثالا متطرفا نوعا ما لكي تكون المسألة واضحة جدا الكافر والعاصي هو اختار المعصية ولم يجبره الله عليها ولكن الله أرادها له، وبما أن الله أراد للكافر الكفر وللعاصي المعصية؛ فالغاية من هذه الإرادة الإلهية هي أن تكون المعصية وأن يكون الكفر سببا للتطهير ولإتمام النعمة، وذلك بالتوبة النصوح إلى الله والرجوع إليه بعد، فبالتوبة تبدل السيئات حسنات، ويضاعف الله له الأجر والثواب على دوام الاستغفار والندم على المعصية. وقس على ذلك على كل ما يحصل للإنسان في لحظة من عمره. نرجو من فضيلتكم التكرم بإعطاء رأيكم في فهمي لهذه الآية، هل هو صحيح؟ هل يخالف شيئا من القرآن أو السنة؟ لو تكرمتم أنا لا أريد أن تنقلوا لي آراء المفسرين، فبحمد الله كل كتب التفسير متاحة، والوصول لتفسير أي آية سهل جدا، أريد من فضيلتكم أن تدلوني على أخطائي إن وجدت، وعلى الآية والحديث الذي يتناقض مع ما قلت. وجزاكم الله عني خيرا ونفع الله بكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلو رجع السائل لكتب التفسير المتاحة التي أشار إليها، لعلم أن حمل لفظ هذه الآية على عمومه، إن صح في جملة الشرائع، فإنه لا يصح في عموم المكلفين: مسلمهم وكافرهم، بل الآية مفتتحة بنداء المؤمنين، وكذا السياق، والسباق كله في حقهم، وهم وحدهم من يليق بهم هذا الخطاب: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {المائدة:6}، ونحو ذلك أيضا جاء في سورة البقرة بعد أن أمر الله المؤمنين بصيام رمضان، وبقضاء المسافر والمريض للأيام التي أفطرا فيها، قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {البقرة:185}، ومثل هذه الآيات لا يصح تعميمها لتتناول الكفار أيضا! وإلا لجاز في الجهة المقابلة أن يحمل على العموم قولُه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {آل عمران:176}، فإنه مخصوص بالمخاطبين أول الآية وهم: الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ {آل عمران:176}،!
وبهذا يتضح ما في قول السائل: (فالغاية من هذه الإرادة الإلهية هي أن تكون المعصية وأن يكون الكفر سببا للتطهير ولإتمام النعمة) !!!
ولذلك فسر المفسرون هذه القطعة من الآية بما يناسب سياقها وما يليق بحال المؤمنين، قال ابن كثير: قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} أي: فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر، بل أباح التيمم عند المرض، وعند فقد الماء، توسعة عليكم ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه.. وقوله: {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} أي: لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة. اهـ.
وقال ابن الجوزي في (زاد المسير): «الحرج»: الضيق، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم، قوله تعالى: {وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا، لأن الوضوء يكفر الذنوب. قوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال: أحدها: بغفران الذنوب ... والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد. والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان. والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين. اهـ.
وقال الجزائري في (أيسر التفاسير): يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وما ينوب عنهما عند العجز، وهو التيمم، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب؛ لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضئ كما جاء بيانه في السنة وهو قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك لشكره، وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة، وهو معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اهـ.
وأما اللام في هذه الآية فقال ابن عطية في (المحرر الوجيز): الإرادة صفة ذات، وجاء الفعل مستقبلا مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم، وتعدية أراد وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل

قال سيبويه: وسألته ـ يعني الخليل بن أحمد رحمه الله ـ عن هذا فقال: المعنى إرادتي لأنسى، ومن ذلك قول قيس بن سعد:

أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود

ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام. وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن ... اهـ.
ثم إنه ينبغي الانتباه إلى أن الإرادة إذا نسبت لله تعالى فهي نوعان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية دينية، والفرق بينهما أن الإرادة الكونية القدرية لا بد أن تقع، وقد تكون مما يحبه الله كالطاعات، وقد تكون مما يبغضه الله كالمعاصي. وأما الإرادة الدينية الشرعية فلا تكون إلا مما يحبه الله، وقد تقع وقد لا تقع، لأن الله تعالى أعطى العباد اختيارا في الطاعة والمعصية، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 130717. وهذه الآية محل السؤال من الإرادة الشرعية لا الكونية، كما سبق ذكره في الفتوى رقم: 48784. قال شيخ الاسلام ابن تيمية: أما النوع الثاني: فهو الإرادة الدينية الشرعية، وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاؤهم بالحسنى، كما قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} ... اهـ.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 95359.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني