الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معنى قول ابن فارس عن بعض الكلمات: زالت بزوال معانيها

السؤال

ذكر ابن فارس في كتابه ـ الصاحبي في فقه اللغة ـ أن من الأسماء التي زالت بزوال معانيها "المرباع" و"النشيطة" و"الفضول" و"الإتاوة" و"المكس" و"الحلوان".
السؤال: ما معنى قوله "زالت بزوال معانيها"؟ وإن كان يقصد بالزوال عدم الاستخدام فكيف يقال زالت وبعضها لم يزل يستخدم حتى الآن؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالظاهر أن الذي يقصده ابن فارس ـ رحمه الله ـ أن تلك الأسماء كانت تطلق في الجاهلية على معان معينة، ثم جاء الإسلام وأبطل معانيها فزالت بذلك، أي زال استخدامها وترك الناس الكلام بها فماتت، جاء في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد 107 ما نصه: قد يزول معنى الكلمة وليس لها معانٍ أخرى تتشبّث بها، فتموت؛ لتفريغها من محتواها الّذي هو سرّ بقائها، وقد أشار إلى ذلك ابن فارس في قوله: "ومن الأسماء الّتي كانت فزالت بزوال معانيها قولهم: المرباع، والنّشيطة والفضول....
وقال الجاحظ: "قال أبو عبيدة معمر بن المثنى عن أبي عبد الرحمن يونس بن حبيب النّحوي حين أنشده شعر الأسدي:
ومركضةٌ صَرِيحيٌّ أَبُوهَا تُهَانُ لَهَا الغُلامَةُ والغُلامُ
قال: فقلت له: فتقول للجارية: غلامة؟ قال: لا، هذا من الكلام المتروك، وأسماؤه زالت مع زوال معانيها؛ كالمرباع والنّشيطة….
وقد قضى الإسلام على كثير من الكلمات الدّالّة على نظم جاهليّة، كالمِرْبَاع والصَّرورة والنَّوَافج والحُلْوَان والمَكْسُ، وغيرها، فماتت تلك الكلمات؛ لأنّ الإسلام غير من القيم الفكرية والاجتماعيّة الّتي كانت سائدة في الجاهليّة. اهـ

وللتوضيح نعود إلى معانى الكلمات المذكورة ليتضح للسائل الكريم أنها كانت لها معان مستعملة فيها في الجاهلية ، ثم تركت تلك المعانى واندثرت، فبقيت الألفاظ محفوظة بلا استعمال.

فالمرباع مثلا كان يطلق على ربع الغنيمة يكون لرئيس القوم في الجاهلية، والنشيطة تطلق على ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل وصولهم إلى العدو، والفضول كان يطلق على ما يفضل من الغنائم بعد قسمتها.

جاء في لسان العرب: والنَّشيطةُ ما يغنَمُه الغُزاة في الطريق قبل البلوغ إِلى موضع الذي قصدوه ابن سيده النَّشِيطة من الغنيمة ما أَصاب الرئيسُ في الطريق قبل أَن يصير إِلى بَيْضةِ القوم قال عبد اللّه بن عَنَمة الضَّبِّي لَكَ المِرْباعُ منها والصّفايَا وحُكْمُكَ والنَّشِيطةُ والفُضُولُ يخاطب بِسْطامَ بن قَيْس والمِرْباعُ ربع الغنيمة يكون لرئيس القوم في الجاهلية دون أَصحابه. اهـ

وجاء في تاج العروس: وفضول الغنائم: ما فضل منها حين تقسم. اهـ

فإذا نظرنا إلى تلك الكلمات نجد أن الإسلام أبطل كل معانيها، ووضع نظاما جديدا للغنائم لا مرباع ولا نشيطة ولا فضول فيه، وانظر الفتوى رقم: 55839، بشأن أحكام الغنائم وكيفية قسمتها في الإسلام.

وهكذا الحال بالنسبة لبقية الأسماء، كالإتاوة والمكس، فمعنى الإتاوة في اللغة الخراج، ومعنى المكس: الجباية،

جاء في الصحاح في اللغة: الإتاوَةُ: الخراج، والجمع الأتاوي، قال الجعديّ:

مَواليَ حِلْفٍ لا مَوالي قَرابةٍ * ولكنْ قَطيناً يسألون الأتاويا

تقول منه: أَتَوتُهُ آتُوه أَتْواً وإتاوَةً. قال الشاعر:

ففي كلِّ أسواق العراق إتاوةٌ * وفي كلِّ ما باع امرؤٌ مَكْسُ دِرهَم. اهـ

وفي مختار الصحاح: والمَكْسُ أيضا الجِباية والماكِسُ العَشَّار وفي الحديث { لا يدخل صاحب مكْسٍ الجنة } و المَكْسُ أيضا ما يأخذه العَشَّار. اهـ

وبالنظر إلى تعاليم الإسلام في هذا المجال نجد أنه هنا ـ وإن لم يبطل هذين المعنيين بالكلية ـ ، إلا أنه وضعهما في إطار جديد وقننهما، وجعل لهما نظاما مناسبا لتنفيذهما دون حيف ولا ظلم لأحد، ثم اختار لهما اسم "الخراج" ، فتُرك بذلك استعمال الكلمتين السابقتين فاندثرتا، وراجع للاطلاع على أحكام الخراج وأنواعه فتوانا رقم: 6032.

أما كلمة الحلوان فإنها كانت تطلق على معان كثيرة من أشهرها: أجرة الكاهن.

جاء في تاج العروس: (والحلوان بالضم أجرة الدلال) خاصة عن اللحيانى، (و) أيضا أجرة (الكاهن)، ومنه الحديث نهى عن حلوان الكاهن، قال الاصمعي: هو ما يعطاه الكاهن ويجعل له على كهانته، (و) أيضا (مهر المرأة)، وأنشد الجوهرى لامرأة في زوجها * لا يؤخذ الحلوان من بناتيا * (أو) هو (ما) كانت (تعطى على متعتها) بمكة (أو) هو (ما أعطى) الرجل (من نحو رشوة) يقال حلوت أي رشوت. اهـ

ولا يخفى أن أغلب هذه المعانى جاء الإسلام بإبطالها والنهي عنها، وسنقتصر هنا على معنى واحد منها ، وهو أشهرها بنظرنا ، ألا وهو أجرة الكاهن فقد أبطلها الإسلام، أخرج الشيخان في صحيحيهما عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِىِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ ».
قال النووي معلقا على الحديث: أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن لأنه عوض عن محرم. اهـ

ولا يخفى أن كلمة "الحلوان" لم تعد مستعملة كما كانت في الجاهلية، بل أبطل الإسلام معناها، فصارت غير مستخدمة ولا متداولة كما كانت من قبل.

هذا ولا يعنى عدم استخدام الكلمة أن تختفي تماما بحيث لا يبقى لها أي وجود، بل المقصود بذلك أنها لم تعد مستعملة ولا متداولة بين الناس، رغم أنها موجودة في المعاجم وفي بعض الأشعار، بل أحيانا في بعض نصوص الوحي كما في كلمة الحلوان التي مرت بنا آنفا، وذلك ما قد يكون أشكل على السائل.

وللإطلاع أكثر حول هذا الموضوع ننصح السائل الكريم بالرجوع إلى مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العدد 107 ، ففيه بحث قيم ومفصل حول أسباب موت الألفاظ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني