الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العقم وفقد المال والوظيفة.. عطاء في صورة منع

السؤال

أنا شاب أعزب عندي 31 عاما، عندي مشكلة تتعبني جدا نفسيا، هي: أني اكتشفت أني عقيم لا أنجب أطفالا، أحيانا أقول في نفسي: لماذا أنا تحديدا يا رب عقيم؟ وأقول: ليتني لم أكن عقيما. ثم بعد ذلك أستغفر الله، ولكني بداخلي حزين جدا، خاصة لأني لا أعمل، ولا أجد وظيفة مناسبة، وأريد أن أعمل، مع العلم أني أصلي ولا أذنب، وأحيانا أدعو الله وأقول: يا رب عوضني مكان مرضي، يا رب أعطني المال حتى لو كان شرا لي.
فهل العقم ابتلاء أم لا؟ لأن الله قال: (ويجعل من يشاء عقيما)، وهناك آية في سورة البقرة يقول الله فيها: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) النقص هنا في الأنفس هل المقصود بها: الرجل والمرأة القادران على الإنجاب ولكن لم ينجبا أم الرجل والمرأة العقيمان؟
وشكرا لكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنا لم نفهم كيف تأكدت من عقمك وأنت لم تتزوج! وكيف يئست من إمكان العلاج ولم تعالج الأمر بمباشرة ما تيسر من أسباب الدواء، وبدوام اللجوء إلى الله، وسؤاله أن يذهب عنك داء العقم، فقد أذهبه الله عن زوج إبراهيم، وعن امرأة زكريا، وكانت كل منهما في ذلك الوقت عجوزًا عقيمًا، وكان زوج كل منهما شيخًا كبيرًا.

فزكريا -عليه السلام-، لم يمنعه كبر سنه ووهن عظمه، وعقر امرأته من أن يتوجه إلى ربه قائلا: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا { مريم:4}.

فاستجاب له ربه قائلا: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7].

وأخبر تعالى عنه في سورة آل عمران أنه قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى (آل عمران: 38- 39).

وقال تعالى في سورة الأنبياء: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89-90].

فواظِب على الدعاء ساعات الإجابة، وادع الله بالاسم الأعظم أن ييسر أمورك المادية، ويكثر مالك وولدك، ولا تعجل ولا تقنط، بل ثق بوعد الله بالاستجابة، فقد قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {البقرة:186}، وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ {غافر:60}.

وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجب لي! فيستحسر ويدع الدعاء.

وعليك بالاستغفار، فقد أخبر الحق -عز وجل- أنه سبب كبير لتحصيل المال والولد؛ فقال سبحانه -حكاية عن نوح -عليه السلام--: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح: 10-12).

واعلم أن مرض العقم يعتبر من الابتلاءات التي يصاب بها المؤمن في هذه الحياة، ويعتبر كفارة لذنوبه، ورفعًا لدرجاته إذا صبر عليها، ورضي بقضاء الله تعالى وقدره فيها، وقد سبق أن بينّا ذلك بالتفصيل والأدلة في الفتوى رقم: 94659.

ومن البلاء كذلك: عدم توفر المال والوظيفة، وقال جلّ من قائل: فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {الفجر:15-16}.
والذي ننصحك به هو: الرضا بما قدر الله تعالى، والالتجاء إليه سبحانه، فهو لا يرد داعيه خائبًا، وعليك أن لا تتسخط قضاء الله تعالى، ولا تيأس من روح الله تعالى، وتذكر قوله تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {التغابن:11}.

جاء في تفسير ابن كثير: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.

وقال الأعمش: عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ. فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وقال سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ. يعني: يسترجع، يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي الحديث المتفق عليه: عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. انتهى.

واعلم أن الرضا بقضاء الله مأمور به في كل حال على سبيل الاستحباب عند الجمهور، فقد قال ابن القيم: ومن منازل {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]: منزلة الرضا، وقد أجمع العلماء على أنه مستحب، مؤكد استحبابه, واختلفوا في وجوبه على قولين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يحكيهما على قولين لأصحاب أحمد, وكان يذهب إلى القول باستحبابه, قال: ولم يجئ الأمر به، كما جاء الأمر بالصبر, وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم. اهـ.

وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين عند كلامه على الرضى: أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء، وابتلاءه إياه عافية، قال سفيان الثوري: منعه عطاء وذلك: أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن، فمنعه اختيارا وحسن نظر.

وهذا كما قال فإنه سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له، ساءه ذلك القضاء أو سره، فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كانت في صورة محنة، وبلاؤه وعافيته وإن كان في صورة بلية، ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائما لطبعه، ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة، وهذه كانت حال السلف...

فالراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه، كما قال بعض العارفين: يا ابن آدم، نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب، وقد قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ {البقرة: 216} وقد قال بعض العارفين: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك، فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين، فتسقط من عينه. اهـ.

وليس المراد بالنقص في الأنفس في آية البقرة مجرد العقم أو عدم الإنجاب، وإنما يراد بها: موت الأشخاص، وقتلهم؛ فقد جاء في فتح القدير للشوكاني (1/ 184): والمراد بنقص الأموال: ما يحدث فيها بسبب الجوائح، وما أوجبه الله فيها من الزكاة، ونحوها. وبنقص الأنفس: الموت، والقتل في الجهاد. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني