الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معنى الزهد وبيان أنه لا يناقض العمل والتكسب

السؤال

ما معنى هذا الحديث بالضبط؟ وهل معناه الزهد؟ وهل يجب أن نكون مثل هذا الحديث؟ الحديث هو: "ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب".
وأتمنى أن تفهموني أكثر عن الزهد؛ لأن زماننا هذا غير زمن النبي، مثلا: الآن المنزل الصغير يحتاج إلى مال، والماء يحتاج إلى مال، والملابس تحتاج إلى مال... إلخ. وأقل عمل الآن 8 ساعات، فكيف أنشغل في العبادات فقط دون عمل وأنا لا أجد ما آكل؟ وكيف أكون زاهدا؟ يعني حال الصحابي أبي الدرداء -رضي الله عنه- عندما زاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هل هذا هو الزهد الذي أتبعه لكي أكون زاهدا؟
أتمنى أن تساعدوني، أفكر بهذه الأمور كثيرا، ولأن حالي الآن مثل أي إنسان؛ لدينا منزل إيجار، ولدينا مستلزمات المنزل من ثلاجة... إلخ. فهل هذا مناف للزهد؟
قرأت على موقعكم من أفتى بأن الزهد ليس بترك ما ينفع، مثل: السيارات -مثلا-. وقرأت أيضا ما رأيته تناقضا؛ أن أفتى موقعكم أيضا فتوى بأن الزهد لا يكون ببعض الأمور، مثل: الطعام، والملبس، والمسكن؟ وكيف أرى فتويين متناقضتين؟ بصراحة دخل في قلبي الشك!

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن معنى الحديث هو: الاقتناع بشيء يسير من الدنيا، كما هو الحال في المسافر، كذا في تحفة الأحوذي (5/ 387)
وهذا يفيد الحض على الزهد، ولكنه لا يعني التفرغ للعبادة وترك الكسب، وعدم تحصيل ما ينتفع به العبد في حاجاته ونفقاته، فإن الله تعالى يقول: وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ {المزمل 20}.

قال الشوكاني: هم المسافرون للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم. اهـ

و جاءت أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تحض على التكسب، وبيّن بعضها أن العمل المباح لتحصيل الرزق متى قصد به طاعة الله تحول إلى قربة وعبادة يثاب عليها صاحبها، ومن هذه الأحاديث:
ما روى الطبراني في الأوسط (6835) عن كعب بن عجرة قال: مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فرأى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخرًا فهو في سبيل الشيطان. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم: 1428.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحث على عمل اليد: ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري. وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. رواه أحمد، والحاكم، وصححه الألباني.

وقال: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. رواه الترمذي، وقال فيه: حسن صحيح.
وروى البخاري من حديث الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.

وفي هذا حث على الاكتساب والعمل، يقول النووي: إن في الحديث حثًّا على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات. اهـ.

ويقول محمد بن الحسن في كتاب الكسب: وحجتنا في وجوب السعي للعمل والإنتاج قوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ {البقرة: 267}. اهـ.
فالتكسب الذي يراعَى فيه تحري الحلال، ولا تحصل به إضاعة الفروض التعبدية، ولا الاعتداء على الآخرين، لا ينافي الزهد؛ قال شيخ الإسلام: إذا سلم القلب من الهلع، واليد من العُدوان، كان صاحبه محمودًا وإن كان معه مال عظيم، بل قد يكون مع هذا زاهدًا أزهد من فقير هلوع. اهـ
وقال ابن القيم في المدارج:

والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة، وعلى هذا صنف المتقدمون كتب الزهد، كالزهد لعبد الله بن المبارك، وللإمام أحمد، ولوكيع، ولهناد بن السري، ولغيرهم، ومتعلقه ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي: المال، والصور، والرياسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله، وليس المراد رفضها من الملك، فقد كان سليمان وداود ـ عليهما السلام ـ من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء، ونكاحا لهن، وأغناهم، وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد وكان له رأس مال يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء.

ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن، أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك. فهذا من أجمع كلام في الزهد، وأحسنه، وقد روي مرفوعا. انتهى.

وأما الفتاوى التي ذكرت تناقضها: فأرسل إلينا أرقامها مع بيان ما يشكل عليك، وسنجيبك فيها -إن شاء الله تعالي-.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني