الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عمل قليل يدوم خير من كثير ينقطع

السؤال

بدأت في المحافظة على قيام الليل منذ شهور، وكنت أصلي بجزء في الليلة، ثم في رمضان كنت أصلي القيام وحدي، فكنت أختم في كل عشرة، وحافظت على ذلك بعد رمضان؛ لأنني من حملة القرآن، وشعرت أن الاجتهاد في القيام أولى للحافظ، ولكن أصابني الفتور، وعدت إلى القيام بجزء واحد، واستفساري:
1- هل ألام (بضم الهمزة) شرعا على رجوعي إلى الختم في كل شهر مرة بدلا من في كل عشرة أيام؟
2- هل إذا واصلت إلي آخر حياتي الختمة الشهرية في القيام يكون جيدا؟
3- هل أكون ممن هم (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون)؟
4- هل يشرع لي الاجتهاد في رمضان و في العشرة الأوائل من ذي الحجة ما لا أجتهد في غيرهن بالإطالة في القيام والقراءة والختم في كل عشر أيام مثلا؟
5- كيف أوفق بين حث الشرع على الاجتهاد في القيام كما في الآية السابق ذكرها وبين حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاقتصاد في الطاعة وعلى العمل بما نطيق والمداومة على القليل؟
آسف جدا على الإطالة وأرجو من فضيلتكم توجيه نصيحة عامة عن القيام.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

ففى البداية نهنئك على حرصك على قيام الليل, وتلاوة القرآن, ففى ذلك خير كثير, ونسأل الله تعالى أن يوفقك لطاعته, ويرزقك الاستقامة على ذلك.

وللإجابة على اسئلتك نقول:

1- رجوعك لختم القرآن فى شهر لا تلام عليه خاصة إذا كان هذا هو مقدار طاقتك وما تستطيع المداومة عليه؛ فقليل يدوم خير من كثير ينقطع، كما سنبين لاحقا.

وإذا بقيت على هذا الحال فأنت على خير إن شاء الله, وإن زدت من تلاوة القرآن ومن القيام ـ بحسب ما تستطيع مما لا يؤدى بك إلى الفتورـ فهذا ـ لا شك ـ أفضل وأكثر ثوابا وأعظم أجرا, وقد جاء في شرح سنن ابن ماجه: قد اختلفت عادات السلف في مدة الختم، فمنهم من كان يختم في كل شهرين ختمة، وآخرون في كل شهر، وفي كل عشر، وفي أسبوع إلى أربع، وكثيرون في ثلاث، وكثيرون في يوم وليلة، وجماعة ثلاث ختمات في يوم وليلة، وختم بعض ثماني ختمات في يوم وليلة، والمختار أنه يكره التأخير في الختمة أكثر من أربعين يوما وكذا، التعجيل من ثلاثة أيام، والأولى أن يختم في الأسبوع، والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص. انتهى .

2- الآية الكريمة: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ {الذاريات:17}، مختلف في المراد منها ، قال ابن كثير: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}، اختلف المفسرون في ذلك على قولين: أحدهما: أن "ما" نافية، تقديره: كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه، قال ابن عباس: لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا، وقال قتادة عن مطرف بن عبد الله: قل ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله عز وجل، إما من أولها وإما من أوسطها، وقال مجاهد: قل ما يرقدون ليلة حتى (1) الصباح لا يتهجدون، وكذا قال قتادة، وقال أنس بن مالك، وأبو العالية: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء، وقال أبو جعفر الباقر: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
والقول الثاني: أن "ما" مصدرية، تقديره: كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}: كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر. انتهى

فعلى القول الأول: تكون داخلا في الآية الكريمة إن شاء الله؛ لأن المراد منها ـ على ذلك القول ـ أنهم لم يتركوا أو قلما يتركون ليلة من دون قيام، ونرجو أن تكون داخلا فيها أيضا على القول الثاني ففضل الله واسع.

3- يشرع الاجتهاد في رمضان أكثر من غيره، وفي عشر ذي الحجة أكثر من غيرها، بدليل حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم.

وبدليل الحديث الآخر الذي يرويه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء.

4- التوفيق بين الحث على الاجتهاد في بعض الأحاديث والأمر بالاقتصاد في البعض الآخر: أن الاجتهاد في العبادة مأمور به ومطلوب شرعا، وهو دأب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في حدود ما يطيق الإنسان المداومة عليه، ولذا جاء في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ أي داوم عليه.

وجاء في الحديث الآخر الذي ترويه أيضا عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّى فِيهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ ». وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا عَمِلُوا عَمَلاً أَثْبَتُوهُ. رواه مسلم

قال النووي: وفيه الحث على المداومة على العمل وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة. انتهى

وجاء في إرشاد السارى: ولا ريب أن المديم للعمل ملازم للخدمة فيكثر ترداده إلى باب الطاعة في كل وقت فيجازى بالبر؛ لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلاً ثم انقطع، وأيضًا فإن العامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء. انتهى

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني