الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم بقاء المسلم في بلاد الكفر إذا لم يجد مأوى في البلاد الإسلامية

السؤال

أسلمت منذ اثنتي عشرة سنة، وخلال السنين العشر الأواخر أبحث عن بلد مسلم للإقامة.
حاولت الكويت، السعودية، مصر، الصومال، الإمارات. ورغم إقامتي بعض الشهور في تلك البلدان، لم أجد إقامة رسمية أبدا، فأخرج كرها أبحث عن مكان آخر.
أنا الآن في المغرب العربي، وسوف أخرج قريبا بسبب عدم إقامة رسمية هنا، لكن لا أعلم أين أذهب الآن.
هل يجوز لي أن أرجع إلى أوروبا أم لا؟ أنا أخاف على ديني هناك ودين أولادي؟
العلماء يقولون إن الهجرة واجبة، ولكن البلاد الإسلامية لا تستقبلنا بالترحيب.
فما الحل لنا؟
أفيدوني بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى، وأن يعينك على الخير، وييسره لك، وأن يحفظك، وذريتك من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. وأما ما سألت عنه: فجوابه أن الهجرة من ديار الكفر إنما تجب على من يخشى على نفسه وأهله الفتنة، أو لا يقدر فيها على إظهار شعائر دينه. فإن وجبت الهجرة، ثم عجز عنها لعذر، جازت له الإقامة؛ فإن الواجبات تسقط بالعجز، والله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 100].

قال السعدي: هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات ... ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} فهؤلاء قال الله فيهم: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} و "عسى" ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة، وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي، بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم. وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره، فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وقال في عموم الأوامر: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل؛ لقوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}. اهـ.

وراجع الفتوى رقم: 149695.
وسئل الشيخ ابن عثيمين: ما معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} وكيف تكون حال من يريد الهجرة إلى بلد الإسلام، ولكنه لا يستطيع ذلك لعدة أسباب؟
فأجاب: الله سبحانه وتعالى وعد المهاجر في سبيله، والمراد بالمهاجر: هو الذي يترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فرارًا بدينه، ويكون قصده إقامة دينه في بلاد المسلمين، والفرار به من بلاد الكفر والضلال، فإن من كانت هذه نيته، فإن الله وعده بأن يجد له وطنًا يستطيع فيه إقامة دينه، وأرض الله واسعة، كما قال تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، وغير ذلك من الآيات، والمراد بالهجرة الشرعية هو ما ذكرنا: أن يكون قصد الإنسان الفرار بدينه من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فهذا هو الذي وعده الله بالخير في الدنيا والآخرة. وقوله: {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} وعد من الله سبحانه وتعالى بأن يجد في بلاد الإسلام مأوى وسعة، ويجد أيضًا مجالًا للجهاد في سبيل الله، وإظهار دين الله عز وجل. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني