الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النهي عن الخوض في تفاصيل ما جرى بين الصحابة

السؤال

"وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع وما اعتقدوا فسق أنفسهم بل فسق خصومهم وفسق عثمان وطلحة ووافقهم عليه عمار بن ياسر وعدي بن حاتم وابن الكواء والأشتر النخعي وجماعة من الأمراء وعلي في تقية من الإنكار عليهم خوف الفتنة ؟ فإن قيل لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا . "
كتاب المستصفى في علم الأصول للغزالي
هل كان عمار بن ياسر وعدي بن حاتم يعتقدان فسق عثمان وطلحة رضي الله عنهما ؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأما عن حال عمار، وعدي مع عثمان -رضي الله عنهم جميعا- فلم نقف فيه على شيء مسند صحيح، ومذهب أهل السنة قديما وحديثا هو الكف عن الخوض في تفاصيل ما جرى بين الصحابة -رضوان الله تعالى عنهم-

فأخرج الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا.

وعن أبي راشد رحمه الله تعالى قال: جاء رجال من أهل البصرة إلى عبيد بن عمير قالوا: إن إخوانك أهل البصرة يسألونك عن علي وعثمان. فقال: وما أقدمكم شيء غير هذا؟ قالوا: نعم، قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.

فإن الأولى بالمسلم أن يهتم بإصلاح نفسه، وإصلاح مجتمعه، وإصلاح عصره، وأن يكف عن الصحابة، والبحث عن أخطائهم، وخلافاتهم؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدموا، وقد رضي الله عنهم، وزكاهم، وعدلهم في كتابه، وأثنى عليهم.

فقد ذكر ابن أبي زيد القيرواني ـ رحمه الله ـ في الرسالة في كلامه على العقيدة: أنه لا يذكر أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر، وأن على المسلمين أن يمسكوا عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يتلمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب.

وقال العيني في عمدة القاري: والحق الذي عليه أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، وحسن الظن بهم، والتأويل لهم، وأنهم مجتهدون متأولون، لم يقصدوا معصية، ولا محض الدنيا، فمنهم المخطئ في اجتهاده، والمصيب، وقد رفع الله الحرج عن المجتهد المخطئ في الفروع، وضعف أجر المصيب.اهـ.

وقال ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية: ونعتقد أن خير هذه الأمة القرن الأول، وهم الصحابة -رضي الله عنهم-، وخيرهم العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وخير هؤلاء العشرة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، ونعتقد حب آل محمد صلى الله عليه وسلم، وأزواجه، وسائر أصحابه رضوان الله عليهم، ونذكر محاسنهم، وننشر فضائلهم، ونمسك ألسنتنا وقلوبنا عن التطلع فيما شجر بينهم، ونستغفر الله لهم. اهـ.
وقال شيخ الإسلام في الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم... ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق، والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم خير القرون ـ وإن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا، كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم؟ ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل، نزر، مغمور في جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح. انتهى باختصار.

وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: لا يجوز أن يُنسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر؛ لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. انتهى.

وفي الدرر السنية من الأجوبة النجدية: وأما الحروب التي وقعت بين الصحابة، فالصواب فيها: قول أهل السنة والجماعة؛ وهو الذي نعتقده ديناً ونرضاه مذهباً؛ وهو: السكوت عما شجر بينهم، والترضي عنهم، وموالاتهم، ومحبتهم كلهم، رضوان الله عليهم أجمعين؛ وذلك: أن الله تبارك وتعالى، أخبر أنه قد رضي عنهم، ومدحهم في غير آية من القرآن؛ وإنما فعلوا ما فعلوه من الحروب، والقتال بتأويل، ولهم من الحسنات العظيمة الماحية للذنوب ما ليس لغيرهم. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاما بلا علم، ولا عدل، يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان، أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة؛ لكن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا، وقد ثبت من فضائلهم خصوصا، وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم، أعظم إثما من الكلام في غيرهم.. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني