الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رأي ابن تيمية في (من) المذكورة في أول آية من سورة البينة

السؤال

أرجو إفادتي برأي شيخ الإسلام ابن تيمية في دلالة "من" في الآية الأولى من سورة البينة، هل هي تبعيضية، أم لبيان الجنس، فإني قرأت كلامه في كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، فلم أتبين ما مذهبه في المسألة؛ إذ يضع شيخ الإسلام آية البينة ضمن المواضع التي قال إنها لبيان الجنس، ثم يقول إن من تبعيضية. أشعر أن خطأ ما في فهمي لكلامه. أعرف أن المسألة خلافية، لكن ما أريده هو تحرير رأي ابن تيمية في "من" في آية البينة.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن رأي ابن تيمية في معنى ( من ) في قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ {البينة:1}، أنها لبيان الجنس.

فقد قال في كتابه الجواب الصحيح: فإن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بما أنزل إليه من ربه، كافرون، قد شهد عليهم بالكفر، وأمر بجهادهم، وكفر من لم يجعلهم كافرين، ويوجب جهادهم قال -تعالى-:{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} [البينة: 1] . وقال -تعالى-:{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] .وقال -تعالى-:{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29] . وحرف (من) في هذه المواضع لبيان الجنس، فتبين جنس المتقدم، وإن كان ما قبلها يدخل في جميع الجنس الذي بعدها، بخلاف ما إذا كان للتبعيض كقوله:{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1] . فإنه يدخل في الذين كفروا بعد مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جميع المشركين، وأهل الكتاب. وكذلك دخل في الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، جميع أهل الكتاب الذين بلغتهم دعوته، ولم يؤمنوا به، وكذلك قوله:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات} [النور: 55] . وإن كان جميعهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا إذا كان الجنس يتناول المذكورين وغيرهم، ولكن لم يبق في الجنس إلا المذكورون، كما يقول: هنا رجل من بني عبد المطلب، وإن لم يكن بقي منهم غيره.اهـ.

فهذا السياق يبين بجلاء أن ابن تيمية يرى أن ( من ) في الآية هي لبيان الجنس.

وإنما الإشكال هو في جملة: وحرف (من) في هذه المواضع لبيان الجنس، فتبين جنس المتقدم، وإن كان ما قبلها يدخل في جميع الجنس الذي بعدها، بخلاف ما إذا كان للتبعيض كقوله:{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1] . اهـ.

فهذا قد يتوهم منه أنه يرى أن من للتبعيض في الآية، لأنه مثل بها عندها، لكن سياق الكلام، ولحاقه يبين أن هذا ليس مرادا له، والظاهر أن في العبارة تصحيفا، فقد وقع في بعض نسخ الكتاب ( لقوله :{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1] ) مكان ( كقوله ) - كما في حاشية طبعة دار العاصمة - ، وهذا يزيل الإشكال وتستقيم به العبارة.

ومما يؤيد ذلك ما قاله في الفتاوى الكبرى: قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1] ، وقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا} [آل عمران: 20] ، وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين، وإخبار عنهم، المراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم، الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى، ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل، فإن أولئك لم يكونوا كفارا، ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن، ولا قيل لهم في القرآن يا أهل الكتاب، فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن، وإذا كان كذلك، فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب، فهو من أهل الكتاب، وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ، وهم مخلدون في نار جهنم، كما يخلد سائر أنواع الكفار. اهـ.

وقد نص كثير من المفسرين على أن (من ) في الآية لبيان الجنس، وليست للتبعيض.

قال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ {البقرة:105}: من الأولى للبيان؛ لأنّ الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب، والمشركون كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ .اهـ. من الكشاف.

وفي تفسير البيضاوي: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) اليهود والنصارى؛ فإنهم كفروا بالإِلحاد في صفات الله سبحانه وتعالى، ومِنْ للتبيين.اهـ.

وفي تفسير القرطبي: قوله تعالى: لم يكن الذين كفروا. كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود: لم يكن المشركون، وأهل الكتاب منفكين وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي: وهي جائزة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الصحيح: فطلقوهن لقبل عدتهن، وهو تفسير. اهـ.

وقراءة ابن مسعود -رضي الله عنه- تدل على أنه فهم أن (من) لبيان الجنس.

وفي تفسير الجلالين : من} للبيان. اهـ.

وقال ابن عاشور: ومن في قوله: (من أهل الكتاب ) بيانية، بيان للذين كفروا. اهـ.

لكن ذهب القاسمي في تفسيره إلى أن ( من ) للتبعيض، فقال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوة النبيّ صلوات الله عليه بعنادهم، بعد ما تبينوا الحق منها مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى الذي عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته ... ثم قال: بهذا الذي تقدم، عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن مِنْ في قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبعيض. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني